مع اقتراب الفترة التمهيدية من الانتخابات الرئاسية الأميركية من نهايتها٬ تحول ما وصفه المعلقون منذ شهر واحد مضى بـ«المستحيل» الآن إلى «الحتمي»٬ ذلك أنه لن يكون دونالد ترامب المرشح الجمهوري بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل فحسب٬ وإنما يبدو أنه يملك الآن فرصة حقيقية للفوز على الأقل تبًعا لما تكشفه بعض استطلاعات الرأي.
وحسبما أتذكر٬ لم يسبق لأي سياسي يطمح لنيل الترشح في الانتخابات الرئاسية خلال السنوات الأخيرة أن اجتذب كل هذا القدر من النقد القاسي الذي تعرض له ترامب٬ خصوًصا من قبل المثقفين الذين يعتبرونه شخًصا مبتذلاً وشبه أمي تصادف أن ورث ثروة عن والده. أما الثلاثة ملايين تقريًبا الذين صوتوا لصالحه في الانتخابات التمهيدية٬ فيجري النظر إليهم باعتبارهم حفنة من الجهلة أو المتعصبين فكرًيا.
والواضح أن غالبية كبرى من المسؤولين المنتخبين عن الحزب الجمهوري وشخصيات بارزة أخرى ليسوا على استعداد لتقبل ترامب٬ ناهيك عن تأييده٬ بل إن البعض اقترح طرح مرشح من طرف ثالث لضمان عدم اقتراب ترامب من أعتاب البيت الأبيض. وزاد القليلون على ذلك بالتلميح إلى إمكانية أن يشاركوا في الترويج لهيلاري كلينتون٬ الحصان الأسود للديمقراطيين على مدار ثلاثة عقود٬ أو بيرني ساندرز٬ حامل لواء الاشتراكية المصطنعة٬ المصنوعة في بركلين.
وانتشرت تحذيرات من أن وصول ترامب للرئاسة سيسفر عن اندلاع صراعات عرقية وطائفية داخل الولايات المتحدة٬ ناهيك عن حرب عالمية ثالثة. ويبقى التساؤل هنا: هل هناك حًقا ما يبرر كل هذا العويل؟ واقع الأمر٬ لا أعتقد ذلك. ودعونا لا نغفل أن ترامب حتى هذه اللحظة لم يطرح سياسات محددة٬ في الوقت الذي تحول حديثه عن بناء جدار على الحدود مع المكسيك وفرض حظر مؤقت على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة٬ إلى جزء من الفلكلور السياسي ومادة دسمة في المحادثات على موائد العشاء عبر مختلف أرجاء العالم٬ لكنها لا ترقى لمستوى السياسات.
ولا يعد هذا الأمر مثيًرا للدهشة بالنظر إلى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية غالًبا ما تشبه مسابقات الجمال٬ وليس اختباًرا حقيقًيا للخيارات القائمة على صعيد السياسات. وبوجه عام٬ يبدي الناخبون اهتماًما أكبر بقصص حياة المرشحين وميولهم وحجم الكاريزما التي يتمتعون بها. كما أن جزًءا كبيًرا من النتيجة يعتمد على المزاج العام في لحظة عقد الانتخابات٬ فعلى سبيل المثال كان من شأن وجود مزاج عام غاضب لأسباب منها الإهانة التي تعرضت لها الولايات المتحدة داخل إيران٬ معاونة رونالد ريغان في الفوز بالرئاسة عام 1980. كما أن مزاًجا عاًما يعكس شعوًرا بالإرهاق والإنهاك لأسباب منها حربا أفغانستان والعراق٬ ساهم في الفوز غير المتوقع لباراك أوباما عام 2008.
وتشير عادات التصويت في أوساط الناخبين الأميركيين إلى أن أولئك الذين تعتمل بصدورهم مشاعر أكثر حدة حيال الوضع العام للبلاد٬ يصبح لديهم صوت أكبر في اختيار الرئيس.
ويكشف عديد من الدراسات التي تناولت أنماط التصويت في أوساط الناخبين الأميركيين أن قرابة ثلث المؤهلين للإدلاء بأصواتهم هم من يدلون بأصواتهم بانتظام٬ بينما يقبل ثلث آخر على الإدلاء بأصواتهم من وقت لآخر٬ ربما 4 أو 5 مرات طيلة حياتهم. ويبقى ثلث آخر لا يدلي بصوته قط. ويصل معدل المشاركة في المتوسط في الانتخابات الرئاسية إلى نحو 55 في المائة٬ وغالًبا ما يأتي الحسم في نتيجة الانتخابات من قبل أصوات ما يقرب من 20 في المائة من الناخبين يطلق عليهم «المستقلين».
الواضح أن من يقولون إنهم يشعرون بالفزع حيال إمكانية نجاح ترامب يتجاهلون حتى الآن حقيقتين: أولاهما أن الديمقراطية هي من حددت قواعد اللعبة٬ لكنها ل تضمن النتيجة. ويبدو الأمر في أحد جوانبه أشبه بلعبة «تنس» التي كي تكون صحيحة يجب الالتزام بالقواعد٬ مع عدم معرفة أي من الأطراف من سيكون الفوز حليفه.
وقد تتمثل صورة أدق للديمقراطية في متجر يمثل فيه المتسوقون الناخبين٬ حيث يتجولون بأرجاء المتجر ويملأون العجلات التي يجرونها بشتى أصناف السلع٬ ثم يتحركون نحو موظف الحسابات٬ ولا أحد منهم يدري مسبًقا كيف سيجري ملء كل هذه العجلات وبأي أصناف٬ وذلك لأن الديمقراطية في طبيعتها غير منظمة ومتنوعة.
بيد أن المشكلة تكمن في أن الطبيعة البشرية تتوق دوًما إلى شيء من الرومانسية. وفي الإطار الديمقراطي٬ يجري إشباع هذه الرغبة عبر الكاريزما. في حالة ترامب٬ نجد أن الواقع يشير إلى أنه حتى لو لم يكن مستساًغا بالنسبة لك٬ فإن كثيًرا من الأميركيين يرون أنه يمتلك كاريزما بفضل مظهره و«قصة حياته». والملاحظ أن ترامب يبدو بالفعل٬ رغم شعره المستعار٬ قريًبا للغاية من الصورة المألوفة لـ«الأميركي العادي». أما الذين يرون أن هذا الأمر دليل على عنصرية الأميركيين٬ فإنهم يغفلون النقطة الجوهرية هنا. لقد سبق أن شرح أرسطو اعتقاده بأن الحاكم يجب أن يشبه المواطن العادي بأكبر قدر ممكن. وبالنسبة لجزء من الناخبين الأميركيين٬ فإن ترامب يجتاز اختبار القرب في مظهره من المواطن العادي بامتياز٬ تماًما مثلما اجتازه أوباما بالنسبة لمجموعة من الناخبين أصحاب البشرة السمراء منذ ثمانية أعوام.
ورغم أنه ربما لا يتقبل البعض تقديمي للنصح هنا٬ لكوني غير أميركي وخارج الحزب الجمهوري٬ فإنني أعتقد أنه سيكون من الخطأ أن يحاول الجمهوريون تخريب ترشح ترامب عبر مجموعة من التكتلات غير الديمقراطية. وإذا كان ترامب اختيار غالبية أعضاء الحزب الجمهوري٬ فإنه ينبغي أن يسمح له بالترشح رسمًيا للرئاسة تحت لواء الحزب٬ حتى إن كانت هناك مخاوف من تعرضه للهزيمة.
ومع ذلك٬ يعاني النظام الانتخابي الأميركي من مشكلة جوهرية٬ حيث يجري في إطاره منح سلطات هائلة لشخص واحد٬ وبعد ذلك تتعرض للإعاقة عبر تطبيق فصل السلطات. جدير بالذكر أن الآباء المؤسسين الأميركيين٬ وجميعهم من الإنجليز٬ آمنوا بفكرة هيرودوت حول أن الملكية أفضل نظام حكم٬ لأنها نجحت في الصمود لفترة من الزمن تتجاوز ألف عام كاملة. ومع ذلك٬ فإنه بالنظر إلى أنهم كانوا قد ثاروا للتو ضد الملك الإنجليزي باسم الاستقلال٬ لم يكن باستطاعتهم معاودة الانغماس على الفور في الفكر الآيديولوجي السائد داخل ما يعرف باسم «الأنغلوسفير».
الملاحظ أن الناخب الأميركي في حالة بحث مستمر عن «مخلص»٬ عن شخص٬ رجلاً كان أو امرأة٬ لديه القدرة على القيام بشتى الأدوار. ولهذا٬ نجد أن كثيًرا من الرؤساء الأميركيين جاءوا من صفوف المؤسسة العسكرية٬ بينما نجح آخرون أبرزهم فرانكلين دي. روزفلت٬ وفي إطار مختلف رونالد ريغان٬ في التوافق مع هذه الصورة.
من جانبهم٬ مّر الفرنسيون بتجربة مشابهة٬ فبعد الإطاحة بلويس السادس عشر وإعدامه بالمقصلة٬ ظل الفرنسيون في حالة بحث مستمر عن «الرجل المنقذ» منذ ذلك الحين. في البداية٬ جاءوا باثنين بونابرت٬ العم وابن الأخ٬ ثم جاء غامبيتا بعد هزيمة عام ٬1870 ثم بيتان بعد فوضى عام ٬1940 وفي عام 1958 اختار الفرنسيون ديغول في خضم حرب الجزائر.
وبصورة عامة٬ ربما كانت الولايات المتحدة وفرنسا سُتبليان بشكل أفضل حال وجود نظام برلماني يقف في إطار رئيس الدولة في مرتبة أعلى من السياسات الحزبية٬ لكن تبقى هذه قصة مختلفة.
أما الآن٬ فعليكم إحكام ربط الأحزمة استعداًدا لقدوم الرئيس ترامب٬ ولو تحسًبا فقط.