كانت عبارة «موت الآيديولوجيا» من اللازمات التي تتكرر في التحليل السياسي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
والحجة هي أنه بعد تجربة طيف متنوع من الآيديولوجيات، من القومية إلى الفاشية إلى النازية، ومؤخرًا جدًا، الخمينية، فإن الجنس البشري قد توصل إلى أن محاولة تنظيم وضبط حياته بناء على المذاهب الآيديولوجية هو أمر خطير على المدى القصير وقاتل على المدى البعيد.
ولكن ماذا لو كانت آيديولوجيتك تعود في أشكال جديدة، مما يشير إلى أن تنظيم الحياة الإنسانية، على أساس التفكير العقلاني ولا شيء غيره، ربما لا يكون أمرا سهلا مثلما كنا نعتقد قبل عقد من الزمان؟
ولكن في ثمانينات القرن الماضي كان هناك افتراض منتشر على نحو مفرط بأن الصين «الحمراء» قد انتقلت من الآيديولوجيا الشيوعية، وفضلت المسرات التي تجلبها رأسمالية الثراء السريع. ومع هذا، ففي السنوات الخمس الماضية، كانت الجمهورية الشعبية الجديدة والأكثر ازدهارًا إلى حد بعيد تتلمس طريقها في الظلام بحثًا عن تعبير آيديولوجي جديد يعبر عن الذات. ويبدو أن الرئيس تشي جينبنغ وفريقه قد وجدوا ضالتهم في مزيج يجمع ما بين المشاعر الماوية والطموحات القومية والشعارات الكونفشيوسية.
إن الجمهورية الشعبية تستعرض عضلاتها العسكرية، في محاولة لبناء قوة بحرية قادرة على الوجود في المياه الزرقاء، فتبسط سيطرتها أينما استطاعت ذلك، والترويج من جديد للأفكار المناهضة لأميركا والمناهضة لليابان. ومن خلال ما يسمى «مجموعة شنغهاي»، تأمل الصين كذلك في بناء تحالف جديد قادر على ملء جزء من الفراغ الذي خلفه التراجع الاستراتيجي الأميركي في عهد باراك أوباما.
وفي روسيا يجرب الرئيس فلاديمير بوتين نسخة مختلفة من نفس الوصفة. فقد قام بغزو وضم مساحات واسعة من الأرض في جورجيا وأوكرانيا المجاورتين، وزاد الميزانية العسكرية بواقع هائل بلغ 20 في المائة، وأحيا بعض الموضوعات القديمة التي تعود للحرب الباردة. ويحتوي هذا المزيج الآيديولوجي على مقادير متنوعة، بعض منها متناقض، بما في ذلك المسيحية الأرثوذكسية واللينينية، والسلافوفيليا، من النوع الذي طوره خومياكوف والعصرنة كما عرفها هيرزن وبيلنسكي.
كذلك، فما زالت البلدان التي تحاول استيعاب توابع «الربيع العربي» تتطلع إلى أشكال جديدة من التعبير الآيديولوجي عن الذات. لقد فقدت النسخة الإسلامية مصداقيتها بسبب الفظاعات التي ارتكبها الخمينيون، وطالبان و«القاعدة» ومؤخرا «داعش». ويجعل هذا الفكر العروبي وغير ذلك من الرؤى اليسارية حبيس الأرفف.
وليست الدول النامية والقوى الناشئة وحدها المصابة بهذا العطش الوليد للآيديولوجيا.
فاليوم يتردد في الحوار السياسي في اليابان صدى حديث الخوف والغطرسة الميلودرامي في فترة ما قبل الحرب، على حساب الحوار الديمقراطي والليبرالي خلال عقود ما بعد الحرب.
وفي كثير من بلدان أوروبا، هناك عودة لآيديولوجيات اليمين واليسار على حد سواء.
واليوم تعد المجر، في ظل قيادة تنتمي لليمين المتشدد، الصورة العاكسة لما كانت عليه تحت الحكم الشيوعي.
وفي كثير من مناطق أوروبا الغربية، تترك الأحزاب اليمينية المتشددة انطباعًا وتأثيرًا لم يكن لها أن تحلم به قبل جيل مضى.
وفي الانتخابات العامة الأخيرة في بريطانيا، صوت ما يقرب من أربعة ملايين شخص لصالح حزب يميني قومي.
وفي فرنسا، لم يعد ينظر إلى احتمالات أن يفوز مرشح من اليمين المتطرف بالرئاسة في غضون سنتين على أنها شيء من قبيل المزاح.
وفي الولايات المتحدة، يعود جزء من «نجاح» أوباما لجرعة من الآيديولوجيا اليسارية. إن محاولته لتأميم الخدمات الصحية، التي تمثل 15 في المائة من الاقتصاد الأميركي، وزيادته للحد الأدنى للأجور ودفاعه الحماسي عن زواج المثليين والمثليات، كل هذا إنما يعود، جزئيًا على الأقل، لتصميمه على نقل الولايات المتحدة من «النظام القديم» بقدر ما يمكن. ويهدف تطبيعه مع نظام كاسترو في كوبا ونظام الخميني في إيران إلى إعطاء مخلبين لـ«الإمبريالية الأميركية».
واليوم، يمكن أن تكون العودة الأبرز للآيديولوجيا واضحة في اليونان، حيث يقدم تحالف من اليسار المتشدد واليمين المتشدد مزيجًا من مشاعر الخوف من الأجانب وحرب الطبقات والقومية المتعصبة والمدينة الفاضلة.
وللأسف، فإن العالم الخارجي بما في ذلك شركاء اليونان في منطقة اليورو يصرون على تحليل الأزمة بطريقة تكنوقراطية بدلا من حلها بلغة آيديولوجية.
قد يصدم ذلك الخبراء ولكنني أعتقد بأن المسائل الاقتصادية ليست سببًا وإنما هي تأثير الأزمة اليونانية.
يقال كثير عن الحاجة إلى التخلص من الدين اليوناني الذي يساوي إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في 1.8 سنة. ومع هذا فإن مسألة إعادة سداد الدين لن يبدأ تأثيرها إلا بحلول 2025 وفي جزء منه، بحلول 2060. وناهيك عن مشكلات السيولة في المدى القصير، فإن المصارف اليونانية ليست في خطر الانهيار، وهو نفس الحال بالنسبة إلى المصارف الآيرلندية والإسبانية والبرتغالية.
كما أنه لا توجد أسباب مادية تدفع اليونانيين إلى الغضب من الاتحاد الأوروبي. فمنذ انضم البلد إلى المجتمع الأوروبي، والذي أصبح اسمه الآن الاتحاد الأوروبي، استفادت اليونان بمساعدات واستثمارات مباشرة بما تقرب قيمته من تريليون دولار. وفي اليونان بأكملها تطل لافتات تشير إلى مشروعات يمولها الاتحاد الأوروبي.
يداخل الكثير من اليونانيين غضب تجاه حالة بلدهم كلاعب صغير في قطعة أوروبية كبيرة يهيمن عليها عمالقة مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى. وهم مستاءون لكون الاتحاد الأوروبي ومصرفه المركزي يملون عليهم سياستهم الاقتصادية، وهو شعور يشاركهم فيه كثيرون في عدد من البلدان الأخرى الأعضاء.
كما يحتوي الخطاب القومي والاشتراكي لائتلاف اليسار المتطرف واليمين المتطرف الحكومي في أثينا أصداء لموضوعات معادية للاستعمار وللإمبريالية التي كانت تحظى بالانتشار في زمن ما يسمى «الحرب العالمية الثالثة» في الستينات والسبعينات. وخلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كانت اليونان حاضنة للنشاطات المعادية للغرب، وبخاصة النشاطات المناهضة لـ«الناتو» بما في ذلك العمليات الإرهابية.
وتدين اليونان في قيامها كدولة إلى المخططات الأوروبية في مواجهة الإمبراطورية العثمانية التي كانت في طريقها إلى التراجع في القرن التاسع عشر. ولدى إعلان استقلال اليونان في 1830، كتب البريطانيون أول دساتيرها وزودوها بالأموال المطلوبة لتدور عجلة الحياة. وتأسست اليونان رسميا كدولة جديدة في المؤتمر الإغريقي في لندن في عام 1932. قدمت بافاريا ملك البلاد الجديد، الملك أوتو البالغ من العمر 17 عامًا، والذي لم يكن يستطيع الحديث بكلمة يونانية واحدة، لكن الأسوأ من هذا أنه كان كاثوليكيا، بينما كانت الغالبية الكاسحة من اليونانيين تنتمي للمذهب الأرثوذكسي. (في ذلك الوقت لم تكن ألمانيا موجودة كدولة، ولكن ساهمت كثير من المقاطعات الألمانية في قيام اليونان). وبعد ذلك حكم الأمير الذي يتحدر من عدة عائلات ملكية ألمانية ودنماركية اليونان.
كما ساهم العلماء البريطانيون والفرنسيون والألمان في تأسيس وترميز اليونانية الحديثة كلغة ووصلها باليونانية القديمة، التي لم يكن اليونانيون في القرن 19 يستطيعون فهمها.
واليوم، تتوق اليونان إلى تأكيد ذاتها كمقررة لمصيرها وأنها ليست مخلبًا لإمبراطوريات أوروبا ضد العثمانيين أو عنصرًا زائدًا في الاتحاد الأوروبي الذي تقوده ألمانيا.
إن الأزمة نفسية اقتصادية أكثر من كونها اقتصادية، مما يعكس عودة الآيديولوجيا كقالب للسياسات الوطنية. وهذا الهوس الجديد بالآيديولوجيا لن يدوم طويلا. ولكن في أثناء وجوده يجب أخذ الأمور على محمل الجد والتعامل معها بطريقة ذكية.