عبدالوهاب بدرخان
سيطر جو من الارتباك على المعارضة السورية، ربما لأن اللحظة حرجة لأسباب ثلاثة: أولها أن "الأصدقاء" خذلوها وأوقفوا كل دعم للائتلاف في الخارج وللحراك الثوري في الداخل، والثاني أن روسيا وإيران استغلّتا انكفاء الولايات المتحدة وهوسها بـ "الجهاديين" لتعيدا النظام إلى وضع هجومي عسكرياً وسياسياً، والثالث أن الضغط اشتد على الائتلاف كي يخطو نحو "الحوار" من أجل حل سياسي للأزمة. وجاءت الموافقة "الشخصية" للشيخ معاذ الخطيب، رغم ربطها بشروط مسبقة، لتُشِيع الإحباط في بيئة المعارضة.
وخلال الأسبوع الماضي صدرت مواقف أميركية تحاول تبديد الانطباع بأن واشنطن غيّرت موقفها من النظام السوري لتصبح أكثر ميلاً إلى تسوية للأزمة بوجوده وحتى بقيادته. واستمر تركيز نائب الرئيس جو بايدن في ميونيخ، وكذلك السفير روبرت فورد في أكثر من عاصمة، على أن نظام بشار الأسد سينهار وأنه لم يعد قادراً على الحكم، فضلاً عن تأكيد مواصلة دعم ائتلاف المعارضة. لكن الكلام الجميل لا يغيّر شيئاً في الواقع، فالمعارضة صدمها إعلان وضع "جبهة النصرة" على اللائحة الأميركية للتنظيمات الإرهابية واعتبرته تزكية لروايات النظام وهدية مجانية تلقفها وبنى عليها. ولكنْ صدمها أيضاً أن تُختذل في هذه "الجبهة"، بل صدمها أكثر أن يُصار الى تجاهل مسؤولية عنف النظام وعجز المجتمع الدولي عن الصعود الطبيعي للتطرف بسبب تفاقم المعاناة. لكن الأسوأ أن المعارضة شعرت بأن المعادلة العسكرية القائمة، أي منع أي طرف من الحسم، أصبحت مهددة، ولم يعد الأميركيون متمسّكين بها. وليس متوقعاً، حتى بعد لقاء بايدن والخطيب في ميونيخ، أي تحسن ملموس في تدفق الأسلحة والذخائر إلى المعارضة.
في وضع كهذا، وطالما أن واشنطن ضغطت لوقف الدعم عن المعارضة، ملبيةً إلحاح روسيا والنظام، كان متوقعاً منها أن تأخذ في المقابل أفضل الشروط لـ "الحل السياسي". واستناداً إلى المعلومات، فإن التفاهمات مع روسيا لم تبلغ حسم "مصير" الأسد، وإنما حددت ما المطلوب منه، لكن الخلاف على آلية التنفيذ، اعتماداً على "اتفاق جنيف" وتفسيراته، أبقى التفاهمات في مربعها الأول، بدليل إخفاق اقتراح "الحكومة بصلاحيات كاملة"، كما نقله الأخضر الإبراهيمي، إذ بدت الأطراف الدولية بعده كأن لم تعد لديها أفكار. وفي تلك اللحظة طرح الأسد ما سماه "خطة الحل" تحت سقف النظام ومن خلال حكومته الحالية وبشروطه. وطبعاً لم تنل الخطة سوى تأييد إيران، وفيما وصفتها موسكو أولاً بأنها "أساسٌ صالح" للبحث عن حل، صار سيرغي لافروف يعتبرها اليوم "خطة الحل"، أي أن المعارضة مدعوة إلى هذه الخطة.
لم ينته المأزق العسكري للنظام بعد، لكنه وحلفاءه بدأوا يتصرفون وكأن هناك منتصراً يستطيع أن يملي شروطه، ولم تنهزم المعارضة بعد، لكن يراد لها أن تعلن أو تهيئ الإعلان عن استسلامها. في هذا الجو الملتبس، جاءت موافقة معاذ الخطيب على "الحوار مع النظام". ورغم أنه أحاطها بشروط، إلا أنها أثارت الاستهجان فضلاً عن الاستياء والاستنكار وما هو أكثر من ذلك، إذ طولب بالاستقالة، وهُدد بالإسقاط. لكن لكل خطوة انفعالية محاذيرها، فبعدما رمي المجلس الوطني في التيه ومُنح دوراً من خلال الائتلاف، قد تؤدي زعزعة الائتلاف إلى القضاء نهائياً على أي إمكان لإيجاد إطار أو كيان يمثل أو يحاول أن يمثل المعارضة. ما الذي دفع الخطيب إلى هذه المجازفة؟ ليس الرجل محترف سياسة أو فاسداً، ولا هو زعيم لحزب أو جماعة، ولا يمكن تخوينه أو اتهامه بـ "بيع الثورة ودماء الشهداء"... لكنه يعرف النظام حق المعرفة، ولا يحتاج الى من يقول له المزيد عن بطشه وإجرامه، والأكيد أنه ليس معجباً بفكرة "الحوار مع النظام". اذاً، لماذا أبدى موافقة مبدئية عليها؟
تردّد أنه تعرّض لضغوط، وإذا كان الاشتباه الأول فيها يتعلق بالأميركيين، إلا أنها ضغوط من أي جهات يمكن تصوّرها، وأولها على الإطلاق النقطة التي بلغها الوضع في سورية، إذ بات منزلقاً بقوة إلى حرب أهلية طويلة لا مصلحة للثورة فيها، أما النظام، فأعدّ نفسه منذ زمن لخوض هذه الحرب والخروج منها الى المساومة على وحدة الأرض والشعب والدولة، ليظفر بـ "الدويلة" العلوية. وثانيها أن المعارضة المعبّرة عن الثورة تجد نفسها، إلى معاناة الشعب التي تجاوزت كل الحدود والخذلان الدولي الذي أوصد الأبواب، مسؤولة وحدها عن المحافظة على سورية التي يرتهنها النظام لمبادلتها بـ "دويلته". لعل الضغوط التي ينطوي عليها هذا المنعطف الأخطر طرحت الحاجة إلى توقّع أي صدمة: كان يمكن أن يقدم رئيس الائتلاف على أي خطوة، كأن يستقيل، أو يدلي ببيان غاضب يكشف فيه المصاعب مع "الأصدقاء" الدوليين... اختار أن يبدي انحناءة أمام الريح ووافق على الحوار بشروط بديهية، لماذا؟ لأنه مدرك أن هذه الشروط، ولو محدودة، لن يلبّيها النظام.
لا أحد، ولا حتى المعارضة المقيّدة أو المدجّنة في الداخل، يستطيع دخول أي حوار من دون شروط، أقلّه لاختبار النظام. وأوحت ردود فعل الروس والايرانيين بعد التحادث مع الخطيب وكأن موافقته على الحوار تشكّل بداية "انتصار" للنظام. وحتى النظام نفسه أبدى بلسان ما يسمى "وزير المصالحة" ترحيباً كان أقرب الى "التشبيح" منه إلى الاستعداد للتصالح. وسواء كان هذا "الحوار" فخاً أم لا، يبدو أن جميع الذين حكوا ويحكون عن "الحل السياسي" لن يتعرفوا إليه إلا عند الشروع به. ولعل رئيس الائتلاف أراد بهذه المناورة أن يعرف أكثر وعن كثب ما إذا كانت هناك فعلاً خطة حل، وحقيقة ما يفكر فيه الأميركيون والروس والإيرانيون، فهم يناورون بعضهم على بعض، وستكون العملية السياسية، إذا قدّر لها أن تنطلق، حلبة لمزيد من المناورات. أستنتج أن ثمة هدفاً يتعجّله حلفاء النظام، وهو دفع الطرفين إلى الانخراط في حوار وكأنه غاية في حد ذاته، أو كأنه سيخلق دينامية تمكّنه من ادارة نفسه ذاتياً. هذا رهان افتراضي أجوف، فالنظام يتظاهر بأنه بدأ ينتصر لكن مقاتلي المعارضة يتحدّونه كل يوم، ويتصرّف كما لو أن المعارضة غير موجودة، لكنه يتلهّف الى حل سياسي معها، وإلا فإن "انتصاره" سيبقى مجرد وهم. في المقابل، تبدو المعارضة أكثر واقعية، فهي تعترف بأن النظام موجود لأنها قاتلته وأفقدته شرعيته وستواصل القتال، مثله، حتى لو اضطرت الى أي "تحاور" معه، لكن طبعاً بالشروط التي تحقق مصلحة سورية كل سورية، وشعبها كل شعبها.
في نهاية المطاف كانت مناورة ميونيخ لمصلحة المعارضة لا ضدّها، فهي لم تخسر شيئاً، ولم تتنازل عن شيء، وانما كانت فرصة للروس والإيرانيين كي يسمعوا مباشرةً أن ثمن "الحل السياسي" الذي يتخيّلونه أعلى كثيراً مما يتصورون ومما يعرضه النظام. تأكد معاذ الخطيب أنه لا يجازف ولا يغامر، بل يلعب اللعبة ويحرج الآخرين. لذلك صرّح بأن الدول الكبرى ليست لديها خطة. أي أن المحك لا يزال في الداخل، على أرض سورية، فما أن قال نعم للحوار وطرح الشروط حتى انكشف النظام بأنه ليس فقط غير مستعد لأي حل، بل قتل كل الحلول وبقي مصرّاً على الحل العسكري، وهو ما بات عاجزاً عن تحقيقه.