لا يمكن إدراج ما حصل في المملكة العربية السعودية سوى تحت عنوان واحد هو استعادة روح المبادرة. تحتاج المملكة في هذه المرحلة إلى رجل، مثل الملك سلمان بن عبدالعزيز، قادر على اتخاذ قرارات كبيرة وإلى من يترجمها على أرض الواقع. لذلك كان ضروريا أن يصبح الأمير محمد بن سلمان وليّا للعهد كي يكون هناك من هو في وضع تحويل هذه القرارات الكبيرة إلى حقيقة ملموسة في منطقة تزداد فيها التعقيدات يوما بعد يوم.
هذا لا يعني أن وليّ العهد السابق الأمير محمّد بن نايف لم يبذل كل ما يستطيع من أجل تحقيق الأهداف التي وضعها الملك سلمان نصب عينيه. على العكس من ذلك، لعب محمّد بن نايف الدور المطلوب منه في مرحلة معيّنة، خصوصا على الصعيد الأمني. نجح في المجال الذي كان من اختصاصه، لكن الظروف تبدّلت سريعا إلى درجة باتت فيها حاجة إلى تغيير داخلي يحمي السعودية من لعبة الانتظار والتفرّج على الأحداث بدل التأثير فيها. صارت هناك حاجة إلى العمل في إطار رؤية واسعة للدور السعودي على الصعيديْن الإقليمي والعالمي بالاعتماد على وضع داخلي متين. من هذا المنطلق، كان من أهم القرارات الملكية المتخذة، بعد قرار تعيين محمّد بن سلمان وليّا للعهد طبعا، التجنيد الإجباري لخريجي الجامعات.
منذ أصبح وليّا لوليّ العهد، لم يدع محمد بن سلمان ساعة تمرّ من دون الاستفادة منها وتوظيف الوقت من أجل مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه المملكة على غير صعيد. انتهت مرحلة تمرير الوقت والأيام السهلة التي كانت أسعار النفط تغطي فيها على كل الشوائب والأخطاء التي يمكن أن تحصل.
في الواقع، لم يعد من مجال آخر غير التعاطي مع عالم جديد متغيّر كليا في وقت لم تتخل إيران عن مشروعها التوسّعي ولم يعد في الإمكان الوقوف في وجه كلّ المحاولات التي تستهدف أمن المملكة على كلّ صعيد. بكلام أوضح، على المملكة تحمّل مسؤولياتها وعدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على آخرين. هناك مشاكل حقيقية لا مفرّ من التعاطي معها، بما في ذلك وجود سعوديين يؤمنون بالتطرّف ويعملون مع تنظيمات إرهابية. وهذا ما فعله محمّد بن سلمان منذ اليوم الأول الذي تولّى فيه مسؤولياته في مطلع العام 2015. واجه الرجل الواقع ولم يهرب منه أو يستسلم له.
تخوض المملكة العربية السعودية حاليا معارك عدّة في الوقت ذاته. تفعل ذلك في عالم مختلف ومتقلّب، وفي منطقة مختلفة في ظلّ هجمة إيرانية واضحة وفي ظلّ سياسة قطرية تعمل على تقويض نقاط القوّة التي يمتلكها مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
لم يكن من خيار آخر أمام المملكة العربية السعودية سوى المواجهة. تفعل ذلك بدءا بترتيب أوضاعها الداخلية والتدخل المباشر في محيطها من أجل حماية أمنها. ليست “رؤية 2030” التي خرج بها محمّد بن سلمان بعيدة عن هذا التوجه الذي أخذ المملكة إلى إعادة النظر في الوضع الداخلي، بما في ذلك خلق أجواء جديدة تسمح للشباب السعودي بالعيش في ظروف أفضل تسمح له بالتعلّق بثقافة الحياة بدل ثقافة الموت. كان لا بدّ من البدء بالداخل، أي بالسعودية والسعوديين. لذلك كان التركيز على الشباب في “رؤية 2030” وعلى تغيير في النظرة إلى متطلبات المجتمع السعودي بعيدا عن أي نوع من أنواع التزمت والثقافة التي تشجّع على نشوء الفكر المتطرّف.
فرض هبوط أسعار النفط ضرورة اعتماد سياسة جديدة في الداخل السعودي. ما كان مسموحا به في الماضي صار من المحرّمات. على الصعيد الخارجي، هناك الهجمة الإيرانية وهناك حرب اليمن وهناك التصرّفات القطرية التي كان لا بدّ من وضع حدّ لها بطريقة أو بأخرى. كلّ هذه التحديات، تحديات طويلة الأمد تحتاج صبرا ونفسا طويلا. لم يعد مسموحا بأي تردد من أيّ نوع كان، خصوصا في ظل الهجمة الإيرانية المستمرّة على العراق من أجل ابتلاعه كلّيا وتحويله إلى قاعدة تستخدم ضد دول الخليج العربي، على رأسها السعودية. فوق ذلك كلّه، لا يمكن الاستخفاف بخطر الإرهاب، سواء أكان سنّيا أو شيعيا.
باختصار شديد، كان على المملكة العربية السعودية أن تتغيّر كي تواجه التحديات الضخمة التي قد تتخذ شكل حروب مفتوحة. وهذا ما حصل بالفعل. حصل تغيير في العمق على كلّ المستويات وفي كلّ المجالات. لم يعد ممكنا السكوت على ما تقوم به قطر التي اعتقدت أن إعلامها القوي يسمح لها بأن تفعل ما تشاء حيث تشاء، أي أن تجمع بين دعم “حماس” والإخوان المسلمين من جهة، وأن تمُدَّ اليد لإسرائيل من فوق الطاولة… وأن تستضيف قاعدة أميركية في العديد من جهة أخرى!
أن يصبح محمّد بن سلمان وليّا للعهد ليس معزولا عن محاولات سعودية عدّة لاستعادة المبادرة داخليا وإقليميا ودوليا، كما حصل في القمم الثلاث التي استضافتها الرياض قبل أقلّ من شهر بحضور الرئيس دونالد ترامب.
ليس تولي محمّد بن سلمان ولاية العهد سوى تكريس للقرار السعودي باستعادة المبادرة في ظل قيادة سياسية متماسكة تعرف تماما ماذا تريد. هذه القيادة السعودية المتماسكة فاجأت إيران في اليمن ودمرت المشروع الذي استهدف تطويق المملكة من كلّ حدب وصوب. هذه السياسة المتماسكة تستهدف القضاء على أيّ محاولة خارجية لاستغلال الوضع الداخلي السعودي واللعب على التناقضات فيه. بات معروفا من هو الملك ومن هو وليّ عهده، وماذا سيحصل في حال غياب الملك بعد عمر طويل.
حصل التغيير الذي قطع الطريق على أي تأويلات. ليس هذا التغيير سوى تأكيد لوضع قائم يستند إلى رؤية شاملة للإقليم ولما يدور في العالم. ليست السعودية لاعبا هامشيا يخاف من قناة “الجزيرة” وما شابهها أو من حملات تشنّها عليها إيران مباشرة أو عبر أدواتها. السعودية لاعب أساسي في الشرق الأوسط والخليج وهي تمتلك القدرة على المبادرة من دون عقدة الخوف من هذا الطرف أو ذاك.
تخلّت السعودية عن دور المتفرّج على الأحداث. هناك وعي في المملكة بضرورة حصول التغيير الكبير تفاديا للسقوط في الفخ الذي سقط فيه الاتحاد السوفياتي. فالاتحاد السوفياتي انتهى في اليوم الذي شاخت فيه قياداته منذ حكم ليونيد بريجنيف طويلا وهو في وضع صحي وعقلي لا يؤهّله لذلك، ومنذ خلفه طاعنان في السنّ هما قسطنطين تشيرننكو ويوري أندروبوف. عندما جاء ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة كان أوان التغيير فات. فكان ما كان ودفع الاتحاد السوفياتي ثمنا كبيرا بسبب العجز عن إحداث التغيير المطلوب في الوقت المناسب.
هناك إدراك سعودي لضرورة التغيير وأهمية ذلك. كلّ ما في الأمر أن المملكة تغيّرت في الوقت المناسب. بات دورها في ظل تولي محمّد بن سلمان ولاية العهد في حجم الثقل الذي تمثلّه حقيقة كلاعب أساسي في المنطقة وفي المجال الدولي أيضا… لاعب قادر على استعادة روح المبادرة.
المصدر : صحيفة العرب لندن