حسنا، أظهر دونالد ترامب أنّه مختلف عن باراك أوباما ووجه ضربة إلى قاعدة الشعيرات الجويّة، قرب إدلب، ووصف بشّار الأسد بما لا يجب وصفه به.
لم يكن جائزا لجوء الرئيس الأميركي إلى هذا الوصف، أقلّه لأن الحيوان يبقى في أحيان كثيرة أكثر رأفة بالمحيطين به من دكتاتور يحتقر شعبه ويفتك به ويقبل بتغييرات ديمغرافية من منطلق مذهبي بحت.
لا بدّ لجمعيات الرفق بالحيوان، في هذه الحال، من تقديم شكوى إلى أقرب سفارة أميركية على ما فعله رئيس القوّة العظمى الوحيدة في العالم عندما قارن رئيس النظام السوري بمن هو أكثر إنسانية منه بكثير.
من المهمّ الآن أن يمتلك ترامب خطة واضحة في شأن سوريا وما يريده من سوريا وأن يتبع سياسة بعيدة كلّ البعد عن الأهداف التي توخّاها باراك أوباما. تتمثّل هذه الأهداف، التي كانت تلتقي مع ما تريده إيران وإسرائيل، في تفتيت سوريا بدل إعادة الحياة لها وذلك بعدما أثبت الشعب السوري من خلال صموده منذ العام 1963 أنّه شعب يستأهل الحياة وأنّه لم ييأس من المقاومة.
عمل أوباما على استمرار الحرب السورية طويلا، بل طويلا جدا، كي لا يعود مجال لتغيير الواقع على الأرض. فعل ذلك عبر سماحه بتدمير المدن السورية الكبرى مثل حلب وحمص وحماة وتطويق دمشق بحزام مرتبط بالمناطق التي يسيطر عليها “حزب الله” في لبنان في سهل البقاع وامتداداته الجغرافية.
لماذا العودة إلى العام 1963؟ السبب في غاية البساطة أن الثامن من آذار-مارس من تلك السنة كان يوم سقوط سوريا في يد البعث الذي يمثل كلّ أنواع التخلّف، بما في ذلك اجتياح القرية للمدينة والاستسلام للعسكر ولما بعد الاستسلام للعسكر وللانقلابات التي يقومون بها.
كان ما بعد الاستسلام للعسكر بحجة تحويل سوريا إلى “سوريا البعث” وتخلّفه، الخطوة الأولى في عملية الانتقال إلى سيطرة طائفة من الأقلّيات على البلد بتفاهم واضح مع إسرائيل التي تلقّت هديتها الأولى من حافظ الأسد، وزير الدفاع، بين 1966 و0197. استطاعت إسرائيل احتلال الجولان بعد تسليمه لها تسليم اليد.
يفترض في إدارة ترامب إدراك أنّ الموضوع لم يعد موضوع إسقاط بشّار الأسد وعائلته. الأحداث تجاوزت النظام. المطروح مصير سوريا ولا شيء آخر غير ذلك. ما هو مطروح تحديدا وجود نظام شرعي في سوريا. المطروح التساؤل كيف يمكن إيجاد صيغة لسوريا جديدة بعدما صار مستحيلا العودة إلى سوريا القديمة التي حكمها حافظ الأسد وورّثها لابنه.
قضية الشرعية في سوريا حسّاسة إلى حدّ كبير. على سبيل المثال، هناك وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي يتذرع بشرعية النظام لتبرير مشاركة بلده في الحرب على الشعب السوري.
من أين يأتي النظام بشرعية تسمح له بالاستعانة بميليشيات مذهبية أرسلتها له إيران وبسلاح الجوّ الروسي لقصف المدن؟ الأهمّ من ذلك كلّه ما هذه الشرعية التي تسمح للنظام باستخدام السلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة ثمّ نفي ذلك؟
عندما ينفي بشّار الأسد استخدام السلاح الكيميائي فهو يتجاهل أن وزارة الدفاع الروسية اعترفت، وإن بطريقة مواربة، بأنّ هناك سلاحا كيميائيا استخدم. أعلن ناطق روسي بعد قصف خان شيخون في الرابع من الشهر الجاري أن الطائرات التابعة للنظام استهدفت مكانا كان “الإرهابيون” يخزّنون فيه سلاحا كيميائيا.
من أين أتى هؤلاء “الإرهابيون” بالسلاح الكيميائي؟ هل من كذبة أكبر من كذبة وزارة الدفاع الروسية؟ نعم، هناك كذبة أكبر هي كذبة شرعية النظام التي بنيت على قهر السوريين وعلى سياسة مليئة بالشعارات التي لا تمتّ إلى الواقع بصلة من نوع “المقاومة” و”الممانعة”.
في بلد مثل سوريا، يمتلك ثروة إنسانية لا تنضب، طالت كذبة “شرعية النظام” أكثر بكثير مما يجب. مع ضربة ترامب والمحادثات الدائرة بين موسكو وواشنطن اقتربت ساعة الحقيقة.
تعني ساعة الحقيقة في سوريا أن النظام غير شرعي بأيّ شكل من الأشكال وأنّ الوقت حان لتأخذ روسيا حجمها الحقيقي وأن تقبل بالشروط الأميركية والعربية، نعم العربية، التي تشدّد على أنّ لا مكان لبشّار الأسد في سوريا وفي أيّ حلّ سياسي للازمة العميقة التي يعاني منها هذا البلد. الأهمّ من ذلك كلّه أن تتابع الإدارة الأميركية المقاربة التي بدأتها بالردّ سريعا على استخدام السلاح الكيميائي.
تقوم هذه المقاربة على الوصف الحقيقي للحال التي يمثلّها بشّار الأسد وعلى أن الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تكون ناجعة من دون استيعاب أنّ “داعش” والنظام السوري ومن يقف خلفه وجهان لعملة واحدة. “داعش” يقتات من النظام السوري والنظام السوري يبحث عن شرعية من خلال إظهار نفسه في مظهر من يقاتل “داعش!”
كان الهرب إلى سوريا، بحجة أن “النظام الشرعي” فيها، طلب ذلك، سقوطا روسيا في لعبة قامت على رهان محدّد. هذا الرهان هو إدارة باراك أوباما التي قرّرت، إرضاء لإسرائيل وإيران، ترك سوريا تنهار على أهلها. ثمّة لعبة جديدة الآن مختلفة كليّا عن تلك التي سمحت بالتدخل الإيراني والروسي لمصلحة نظام غير شرعي أخذ على عاتقه إنهاء المهمّة الموكولة إليه والتي بدأت بتسليم الجولان إلى إسرائيل قبل نصف قرن.
لم تكن ضربة مطار الشعيرات بصواريخ “توماهوك” مجرّد ضربة عسكرية، سبقها إبلاغ روسيا بها كي تبعد عسكرييها عن هذه القاعدة. كانت الضربة نقطة تحوّل على الصعيدين الإقليمي والدولي. يظلّ هذا التحول مرتبطا بسؤال في غاية البساطة هل ينجح دونالد ترامب في إعادة روسيا وإيران، الدولتين المفلستين، إلى حجمهما الحقيقي؟
هناك حاجة عربية حقيقية إلى ذلك، لا لشيء سوى من أجل إعادة التوازن إلى المنطقة. إنّه توازن مفقود منذ سلّمت إدارة بوش الابن العراق على صحن من فضّة إلى إيران في 2003 ومنذ قرّر باراك أوباما الرضوخ لذلك بل تكريسه بحجة أنّ الملفّ النووي الإيراني يختزل كلّ أزمات المنطقة.
نقطة الانطلاق هي سوريا حيث يعرف النافذون في الإدارة الأميركية ماذا تعني في مجال نجاح الحرب على الإرهاب من جهة وتغيير قوانين اللعبة الدولية من جهة أخرى.
باختصار شديد، إنّ النجاح الأميركي في سوريا سيشكل عودة إلى مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة عندما سقط جدار برلين في خريف العام 1989 وصولا إلى انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع العام 1992. مثل هذه العودة، بوجود مسؤولين في واشنطن، يعرفون الشرق الأوسط في العمق، لن تعني وضع الأمور في نصابها بالنسبة إلى إيران وروسيا والنظام السوري، أو ما بقي منه، فحسب، بل ستتجاوز ذلك إلى ضبط إسرائيل أيضا.
من يتذكّر أن ضبط إسرائيل، أميركيا، حصل للمرّة الأخيرة في العام 1991، عندما انعقد مؤتمر مدريد وكانت في الولايات المتحدة إدارة جمهورية قويّة تضم الرئيس جورج بوش الأب ووزير الخارجية جيمس بايكر ومستشار الأمن القومي الجنرال برنت سكاوكروفت.
المصدر : صحيفة العرب