مرة أخرى يحتاج السودان والجزائر إلى قوى عاقلة تحقق ما يشبه المعجزة كي يكون هناك تفاهم بين الحراك المدني والعسكر في كلا البلدين.
لا مكان سوى للتعقّل، اكان ذلك في السودان او في الجزائر. ليس ما يدعو الى اليأس بالنسبة الى البلدين الكبيرين، بل البلدين الأكبر مساحة في افريقيا. كان السودان الأكبر مساحة في القارة السمراء قبل انفصال الجنوب وقيام دولة مستقلّة فيه. ما حلّ بالبلدين يعبّر عن فشل العسكر في ممارسة السلطة وفشل المجتمع المدني في الوقت ذاته في إيجاد نظام بديل قابل للحياة لا يسيرّه العسكر مباشرة او غير مباشرة. ما حدث كان إضاعة لفرص كثيرة منذ استقلّ السودان في 1956 ومنذ استقلّت الجزائر في 1962.
الفشل السوداني واضح كلّ الوضوح وتوّج بوصول عمر حسن البشير الى السلطة في العام 1989، برعاية الاخوان المسلمين الذين انقلب عليهم من دون ان ينقلب. ففكر البشير فكر شخص متخلّف لا علاقة له بقيام دولة مدنية يكون فيها احترام للمواطن بغض النظر عن دينه وعرقه والمنطقة التي ينتمي اليها. ادّت ممارسات النظام، بين ما ادّت اليه، الى المجازر التي ارتكبت في دارفور. كما ادّت الى انفصال الجنوب...
في الجزائر، اتيحت فرصة ذهبية لعبدالعزيز بوتفليقة كي يساهم في قيام نظام مختلف بعدما استعان به العسكر للخروج من المأزق الذي وجدوا نفسهم فيه، في العام 1998. انتخب بوتفليقة رئيسا في نيسان – ابريل من العام 1999. حالفه الحظ الى حدّ كبير، خصوصا مع ارتفاع أسعار النفط والغاز. بدل التأسيس لنظام فيه تداول سلمي للسلطة، لجأ الى تقليم اظافر العسكر. نجح في ذلك الى حدّ ما. ولكن ما البديل الذي لجأ اليه بوتفليقة؟ لجأ الى نظام تسيطر عليه مجموعة موالية له لا همّ لها سوى جمع المال. صارت في الجزائر مافيا مدنية بديلة من المافيا العسكرية التي كانت تتحكّم بكلّ القطاعات المنتجة في البلد. كان بوتفليقة في بداية عهده الطويل على دراية بكلّ ما يدور في البلد ونشاطات هذه المافيا التي كان على رأسها شقيقه سعيد، الموجود في السجن حاليا، لكن هذه المافيا صارت تتحكّم بكلّ صغيرة وكبيرة بعد صيف العام 2013 بعد إصابة بوتفليقة بجلطة في الدماغ جعلت منه رجلا مقعدا لا يستطيع التوجّه الى الجزائريين. كانت هذه الجلطة دليلا على ان كلّ شيء انهار في الجزائر، خصوصا انّه لم يوجد من يقول ان الرئيس الجزائري لم يعد مؤهّلا لولاية رئاسية رابعة في السنة 2014. بين 2014 و2019، تاريخ نزول الناس الى الشارع لمنع الولاية الخامسة، حكم الجزائر رجل مريض. جعلني ذلك اكتب مقالات عدة تحت عنوان: من المريض؟ الجزائر ام عبدالعزيز بوتفليقة؟
أضاع الرئيس الجزائري الذي وجد نفسه مجبرا على الاستقالة قبل نهاية ولايته كلّ الفرص التي كانت ستسمح للجزائر بالانتقال من نظام هواري بومدين الى نظام مدني منفتح على نفسه وعلى العالم. بقيت الجزائر في عهد بوتفليقة، الذي دام عقدين، تعيش في ظلّ وهم الدولة ذات التطلعات الى لعب دور إقليمي، علما انّ ليس لديها نموذج تستطيع تقديمه الى أي دولة أخرى بعيدة او قريبة.
لم يكن عهد بوتفليقة سوى سلسلة من الفرص الضائعة تماما كما حصل في السودان حيث حلّت الكارثة الكبرى مع وصول البشير الى الرئاسة في العام 1989 نتيجة انقلاب عسكري مدعوم من القوى الإسلامية التي كان يرمز اليها حسن الترابي.
كان وصول البشير الى الرئاسة نتيجة فشل المدنيين في حكم السودان. لم تستطع الأحزاب السودانية يوما ممارسة السلطة بشكل طبيعي. سمح ذلك للعسكر بالحكم طويلا في غياب أي حل من ايّ نوع كان لايّ مشكلة داخلية. منذ استقلّ السودان، غابت القيادات القادرة على استخدام ثرواته. يستطيع المراقب ان يتساءل من الفاشل اكثر الحكم المدني ام الحكم العسكري في بلد كان فيه البشير مستعدا لارتكاب كلّ أنواع المجازر والدخول في لعبة التقسيم من اجل البقاء في السلطة؟
خلاصة الامر ان الذين اسقطوا البشير في السودان لن يستطيعوا القيام بالتغيير الشامل الذي يحلمون به من دون فترة انتقالية يكون فيه تعاون مع العسكر. ما ينطبق على السودان، ينطبق على الجزائر أيضا حيث الحاجة اكثر من ايّ وقت الى استيعاب انّ هناك حاجة الى تفاهمات مع العسكر تمهّد لمرحلة انتقالية تؤسس لنظام جديد مختلف كلّيا عن ذلك الذي حكم الجزائر منذ 1962.
لن يكون سهلا على السودانيين التخلّص من العسكر وإقامة نظام مدني. من يتابع التطورات السودانية التي سبقت عزل البشير، يكتشف ان كبار الضباط انقلبوا عليه بعدما ايقنوا ان الرجل لم يعد يتحكّم بمفاصل السلطة. بين ليلة وضحاها، استُبدل الحرس الذي كان يتولى حماية الرئيس السوداني المخلوع، ووُجد من يقتاده الى سجن كوبر تمهيدا لمحاكمته.
في الجزائر، يتظاهر المواطنون في كلّ المدن منذ عشرين أسبوعا واكثر. ما كان ليحصل تطور حاسم من دون الجيش الذي اثبت انّ بوتفليقة لم يستطع الانتهاء كلّيا من المؤسسة العسكرية على الرغم من كلّ القرارات التي اتخذتها الحلقة الضيّقة المحيطة به. شملت هذه القرارات التخلص من عدد لا بأس به من كبار الضباط. كان بين هؤلاء الجنرال محمد مدين (توفيق) مسؤول المخابرات العسكرية في العام 2015. كان "توفيق" الذي اودع أخيرا السجن يعتبر الرجل الأقوى في الجزائر، خصوصا انّه كان يمتلك كلّ الملفات الحساسة عن كل الشخصيات المهمّة في الجزائر.
ثمة حاجة الى وعي متبادل على صعيدي الحراك المدني والمؤسسة العسكرية في الجزائر والسودان للخروج من حلقة مقفلة لا يمكن لاستمرارها سوى ان يؤدي الى مزيد من الخراب. بصراحة، ليس في أي من البلدين ما يشير الى ان الأحزاب السياسية تمتلك ما يكفي من الوعي لضمان قيام نظام مدني متطور. لم تبرز في الجزائر او السودان شخصية واحدة قادرة على طرح برنامج سياسي لمرحلة ما بعد بوتفليقة او مرحلة ما بعد البشير. هذا امر مقلق في ظلّ شهوة الإسلاميين في البلدين الى السلطة من جهة وغياب ايّ قدرة على الرهان على حسن نيّة العسكر من جهة أخرى. اذا وضعنا جانبا بعض الاستثناءات، تظلّ مشكلة الضباط عموما، وفي دول العالم الثالث خصوصا، انّهم يصورن نفسهم في كلّ وقت انّهم يمثلون الحل، في حين انّهم المشكلة... خصوصا بسبب ضيق افقهم وادعاء معرفة كلّ شيء في هذا العالم.
نعم هناك مأزق في السودان وهناك مأزق في الجزائر. ثمة حاجة الى معجزة كي يكون هناك تفاهم بين الحراك المدني والعسكر في كلا البلدين. ثمة حاجة الى قوّة عاقلة تأتي من خارج لترتيب الامور والقول ان في غياب التفاهم، فان الكارثة مقبلة على السودان وعلى الجزائر.