خيرالله خيرالله
طوال عقود واجهت طرابلس النظام السوري الذي ركّز تركيزا ليس بعده تركيز على تغيير طبيعة المدينة على غرار ما فعله مع المدن السورية الأخرى التي سعى الى تطويقها وتحقيق اختراقات ذات طابع طائفي ومذهبي فيها.
كانت اضاءة طرابلس لشجرة الميلاد، في حضور مسلمين ومسيحيين من ابنائها وشخصيات من مناطق وطوائف مختلفة تمثّل التنوع اللبناني، دليلا على أن المدينة باقية على عهدها. انها تجسّد المقاومة اللبنانية الحقيقية التي ترمزأوّل ما ترمز الى ثقافة الحياة...
ما نشهده حاليا في طرابلس هو سقوط للمشروع الذي يقف خلفه النظام السوري الذي اراد دائما أن تكون طرابلس مدينة منقسمة على نفسها. بدأ النظام السوري عملية اخضاع طرابلس عن طريق اقامة جيب علوي فيها سُمّي حديثا جبل محسن بعدما كان اسمه بعل محسن.
بقدرة قادر صار هناك تمييز بين مواطن وآخر في طرابلس. هناك علويون انخرطوا في اللعبة. وهناك آخرون رفضوا ذلك. الذين انخرطوا في اللعبة من "الشبّيحة" كانوا في الاصل من مؤيدي رفعت الاسد شقيق الرئيس السوري الراحل الذي اراد وراثة حافظ الاسد، فيما الأخير لا يزال حيّا. كان رفعت الاسد الذي سّمّي رفعت عيد تيمّنا به من دعاة حلف الاقلّيات الذي عاد الى الواجهة بقوّة وزخم في عهد بشّار الاسد، علما بأنّه لم يفارق يوما العقل الباطني لوالده.
أمّا العلويون اللبنانيون، الذين يقدّمون انتمائهم الوطني على كلّ ما عداهوالذين يمتلكون حدّا أدنى من المنطق ومن الاخلاق، فقد تذكّروا أنه لم يكن في يوم من الايام تفريق بين مواطن وآخر في طرابلس بسبب دينه أو مذهبه.
كانت طرابلس في كلّ وقت مدينة جامعة لا تمييز فيها بين مسلم ومسيحي وبين سنّي وعلوي. كانت طرابلس مثالا على العيش المشترك وعلى الاعتدال. كانت طرابلس في كلّ وقت مدينة جامعة لكلّ اللبنانيين الآتين من الشمال. كانت بالفعل عاصمة الشمال. كان فيها ابن زغرتا وابنعكّار وابن الكورة وابن البترون. كانت طرابلس تتسع للجميع قبل أن يحلّ النظام العلوي في سوريا الذي اراد التفريق بين ابناء المدينة الواحدة والمنطقة الواحدة، على غرار ما فعل في سوريا حيث أصبح بعض العلويين، وليس كلّهم، ينتمي الى طبقة متميّزة.
كان ردّ طرابس دائما في حجم الحب الذي تكتنزه المدينة للعيش المشترك. فشلت كلّ محاولات النظام السوري الهادفة الى اثارة الفتنة الطائفية. كان الرئيس الشهيد رينيه معوّض، ابن زغرتا، من أبرز الذين لعبوا في السبعينات والثمانينات دورا في اطفاء الحرائق الني افتعلها النظام السوري. وهذا يفسّر الى حدّ كبير اغتياله في الثاني والعشرين من تشرين الثاني- نفمبر 1989 بعد وصوله الى رئاسة الجمهورية.
ردّت طرابلس على الفتنة. كان اجتماع قيادات الرابع من عشر من آذار في المدينة يوم الاحد أفضل ردّ على ما سعى اليه وما يزال يسعى اليه النظام السوري وحليفه الايراني وأدواته وأدوات الادوات. كانت اضاءة شجرة الميلاد في المدينة دليلا ولا أوضح على أن طرابلس ليست مدينة التطرّف السنّي الذي يبرر التطرّف الشيعي الذي يمارسه "حزب الله".
لم تقع طرابلس في الفخ. رفضت طرابلس الامن الذاتي الذي حرّضها عليه النظام السوري وادوات "حزب الله" بعد تفجير المسجدين قبل أسابيع قليلة. رفضت ذلك على الرغم من تقاعس الدولة ومن سقوط ما يزيد على خمسين قتيلا من ابنائها ومئات الجرحى، وعلى الرغم من كشف الذين يقفون وراء الجريمة بالصوت والصورة.
كان قلب طرابلس كبيرا. كان قلبها كبيرا الى درجة أنّها لم تردّ حتّى، ولو بكلمة، على النائب المسيحي ميشال عون،الذي ليس سوى اداة من ادوات "حزب الله"، والذي أصرّ المرة تلو الاخرى على أن طرابلس تؤوي "التكفيريين" وأنّها مجرّد بؤرة ارهابية و"قاعدة" للمعارضة السورية.
لم تنف طرابلس يوما أنّها مؤيدة لثورة الشعب السوري على نظام فئوي ظالم، هي التي عانت قبل غيرها من جور هذا النظام. هل من يريد أن يتذكّر مجزرة باب التبانة التي أشرفت عليها الاجهزة السورية في العام 1986، أي في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن بعد؟
بقيت طرابلس وفيّة لطرابلس وللبنان. تذكّرت طرابلس أن حافظ الاسد كان يعتبرها مدينة سورية وكان على استعداد لاستقبال رجل دين طرابلسي متطرّف ساعات طويلة بغية تحويل المدينة الى "امارة اسلامية" لتبرير سياسات معيّنة. اتبع بشّار الاسد الطريق نفسه. كانت طرابلس دائما اشبهبحسكة في حلقه. أراد في كلّ مناسبة الايحاء بأن طرابلس مؤيدة لكل تيّار ارهابي. لم يتردد في 2007 في ارسال ارهابييه تحت تسمية "فتح الاسلام" الى مخيم نهر البارد الفلسطيني غير البعيد عن طرابلس بغية اظهار المدينة وكأنّها تريد أن تكون عاصمة لـ"امارة اسلامية" في شمال لبنان.
مرّة أخرى، تردّ طرابلس على المفترين عليها. تؤكّد المدينة أنها ترفض المتاجرين بها. لعلّ أهمّ ما تريد تأكيده هو أن ثمّة حاجة الى اهتمام رسمي بها. ليس منطقيا أن يكون عدد كبير من وزراء الحكومة الحالية، وهي حكومة "حزب الله" من طرابلس وأن لا يكون بين هؤلاء، بمن في ذلك رئيس مجلس الوزراء، من يحاول اظهار الوجه الحقيقي للمدينة. فطرابلس المفترى عليها هي في أكثريتها مع العيش المشترك ومع الاعتدال ومع كل ما من شأنه كشف حقيقة النظام السوري وأولياء نعمته في طهران الذين يريدون تبرير تصرّفات "حزب الله" بـ"التطرف السنّي" في هذه المنطقة اللبنانية أو تلك.
فيالنهاية، مشكلة النظام السوري مع نفسه. انه مخلوق غير طبيعي لا شرعية له في بلد يريد شعبه العيش في بلد طبيعي. أمّا مشكلة "حزب الله" فهي في مكان آخر. انّها مرتبطة بمشروع ايراني يقوم أساسا على اثارة الغرائز المذهبية في كل بلد عربي.
ما دخل طرابلس في مثل هذا النوع من المشاريع؟ كلّ ما تريده المدينة، التي هي عاصمة الشمال اللبناني، وفي غياب الاهتمام الرسمي، هو العيش في آمان مع بعض المشاريع التنموية التي في استطاعة ابنائها من أصحاب الثروات الضخمة تمويلها، لو سمحت لهم يدهم اليابسةبذلك...