الضربة الإيرانية الأكبر التي تلقاها مشروع حافظ الأسد، كانت في لبنان حيث استطاعت إيران، عبر ميليشيا حزب الله ملء الفراغ الأمني الذي نجم عن انسحاب الجيش السوري.
كان اللواء محمّد ناصيف (أبو وائل)، الضابط العلوي الذي توفّى قبل أيام عن واحد وثمانين عاما، الرمز الأخير الصادق لما كان عليه نظام حافظ الأسد. كان رمزا لما كان يطمح إليه هذا النظام الذي أتقن تغطية طائفيته بشعارات حزب البعث التي لم تكن يوما سوى عناوين فارغة تستخدم في عملية ترييف المدن العراقية والسورية.
كان محمد ناصيف خير بك الآتي من ريف حماة نموذجا لذلك العقل الشيطاني الذي أراد إقامة حكم علوي يهيمن على جزء من المشرق العربي وحتّى المشرق كلّه عن طريق حلف الأقلّيات وعن طريق علاقة في العمق مع إيران.
كان ملفّ العلاقات الإيرانيةـ السورية من اختصاص “أبو وائل” الذي سعى إلى نوع من التوازن بين طهران ودمشق وذلك عبر تخصّصه ملفّ شيعة العراق أيضا وحتّى بأكراده. ولد الهلال الشيعي في رأس حافظ الأسد قبل أن يولد في رأس النظام الذي أقامه آية الله الخميني في إيران.
في أساس هذا الحلف الذي لعب “أبو وائل” دورا أساسيا في محاولة تشكيله، برعاية مباشرة من حافظ الأسد طبعا، تدجين مسيحيي لبنان من جهة وتغيير طبيعة الطائفة الشيعية من جهة أخرى.
ترافق ذلك مع استمالة الأقلّيات، خصوصا الدروز والإسماعيليين، داخل سوريا نفسها.. والمعاداة التامة لكلّ ما له علاقة بسنّة المدن من قريب أو بعيد، أكان ذلك في لبنان أو سوريا. أمّا أمر المسيحيين السوريين، خصوصا الروم الأرثوذكس منهم، فترك للرئاسة السورية مباشرة. كانت علاقات البطريرك الأرثوذكسي، وهو بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الذي كرسيه في دمشق، مرتبطة بحافظ الأسد مباشرة.
لدى الكلام عن محمّد ناصيف، من المفيد التفريق بين دوره إبان حكم حافظ الأسد ودوره بعد رحيل الأخير عن عالمنا في العام 2000. لم يكن بشّار الأسد حريصا حرص والده على الدور المهيمن للعلويين وعلى تغطية هذا الدور بتحالفات من نوع تلك التي ساعد “أبو وائل” حافظ الأسد في إقامتها. كان بشّار الأسد، ولا يزال أقلّ علوية من والده، هو الذي تربّى في دمشق وبات يتطلع إلى أن يكون سنيا من سنّة المدن الذين ينتمون إلى عائلات البورجوازية الجديدة الغنيّة التي نشأت بفضل شبكة العلاقات المتنوّعة التي أقامتها مع العائلة الحاكمة والعلويين الدائرين في فلكها.. من أمثال آل مخلوف وآل شاليش.
فقد “أبو وائل” دوره الأساسي بشكل تدريجي في عهد بشّار الأسد، لكنّه بقي، بفضل التأثير الإيراني، أحدى مرجعيات شيعة لبنان، كما بقي يشرف على العلاقات مع الدروز والإسماعيليين والشيعة في سوريا وعلى جانب من العلاقة مع إيران. في عهد بشّار الأسد، تضاءل التأثير السوري على شيعة لبنان إلى حد كبير. جاء ذلك لمصلحة إيران التي كان ملفّ العلاقات السورية معها تتحكّم به توازنات معيّنة راحت تختل شيئا فشيئا.
انتهى الدور الأمني المركزي لمحمّد ناصيف مع وفاة حافظ الأسد. بقي الرجل يتمتّع بنفوذ واسع بسبب قربه من العائلة وعلاقته بإيران. لكنّ الحاجة إليه خفّت، خصوصا أن “حزب الله” صار لديه مدخل مباشر على بشّار الأسد المعجب بحسن نصرالله. أكثر من ذلك، تطوّرت الأحداث في لبنان وسوريا بطريقة دراماتيكية جعلت النظام السوري تحت رحمة إيران وليس العكس. لم تعد هناك حتّى من حاجة إلى محمد ناصيف بعدما قدّمت الولايات المتّحدة العراق على صحن من فضّة إلى إيران في العام 2003.
بعد 2003، لم تعد سوريا موجودة في العراق سوى عبر الإرهاب السنّي الذي تمثّله “القاعدة”. بات المعارضون الذين آوتهم دمشق، أكانوا من الشيعة أو الأكراد يمتلكون حسابات وأجندات خاصة بهم خارج إطار حسابات النظام السوري وأجندته.
لكنّ الضربة الإيرانية الأكبر التي تلقّاها مشروع حافظ الأسد، فكانت في لبنان حيث استطاعت إيران، عبر ميليشيا “حزب الله” ملء الفراغ الأمني الذي نجم عن انسحاب الجيش السوري والأجهزة الأمنية في أبريل 2005 نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. صحيح أن النظام السوري شارك في تغطية الجريمة والإعداد لها، لكن الصحيح أيضا أنّ التنفيذ على الأرض، وهذا ما تشير إليه الاتهامات الصادرة عن المحكمة الدولية، تولّاه “حزب الله” أو عناصر مرتبطة به.
انتهى الأمر بلعب بشّار الأسد، الحاقد على رفيق الحريري، الدور المطلوب منه أن يلعبه، وهو دور رسمت خطوطه العريضة في طهران وليس في دمشق.
انتهى “أبو وائل” يوم انتهى حافظ الأسد الذي سقط مشروعه في سوريا قبل أن يسقط في لبنان. خرّب سوريا ثمّ خرّب لبنان. كان مما لا شكّ فيه ضابط أمن ناجحا إن في مجال القمع الداخلي وإن على صعيد العلاقات مع بعض القوى المعروفة الإقليمية. لكنّه كان ضابطا لم يستطع يوما التخلّص من طائفيته.
نجح “أبو وائل” في أمرين. أولهما مساهمته في إقامة نظام أمني يسيطر عليه الضبّاط العلويون. حكم النظام سوريا بالحديد والنار وحوّلها إلى سجن كبير طوال ما يزيد على أربعة عقود. أمّا الأمر الآخر، الذي نجح فيه، فهو تمهيد الطريق أمام سقوط نظام بشّار الأسد تحت السيطرة الإيرانية الكاملة.
لم يحصل هذا السقوط بين ليلة وضحاها. لكنّه جاء نتيجة طبيعية للعلاقة التي أقامها حافظ الأسد مع إيران بعد نجاح ثورة الخميني في العام 1979 وانضمام سوريا إلى دعم إيران في حربها مع العراق بين العامين 1980 و1988. استفاد حافظ الأسد من كلّ الغباء الذي كان يتمتّع به عدوّه اللدود، البعثي الآخر، صدّام حسين. لم يترك صدّام خطأ إلاّ وارتكبه منذ توليه الرئاسة في صيف العام 1979، أي بعد أشهر قليلة من وضع الخميني يده على إيران.
أسّس “أبو وائل”، بإشراف الأسد الأب، طبعا، الحلف غير المقدّس الذي قام بين طهران ودمشق من منطلق مذهبي بحت. أسّس لخراب لبنان عندما لعب دورا في إغراقه بالأسلحة والمسلّحين الفلسطينيين وفي التدخل في كلّ كبيرة وصغيرة تخصّ أيّ شيعي لبناني. أسّس لتراجع الدور المسيحي في لبنان بدءا بتوريط المسيحيين في حروب مع المنظمات الفلسطينية. ترافق ذلك مع مجازر طالت الوجود المسيحي في الأطراف اللبنانية. لعلّ ما تعرّضت له بلدة القاع على يد السوريين في منتصف السبعينات من القرن الماضي خير دليل على ذلك..
لا يمكن إحصاء أفضال “أبو وائل” لا على سوريا ولا على لبنان ولا على العراق ولا حتّى على الأردن في مرحلة معيّنة. لكن كلّ ما يمكن قوله إنّ الرجل قليل الكلام الطائفي في العمق والمتقشّف ظاهرا، حصد ما زرعه. حصد المشهد السوري الذي يمرّ أمام أعيننا اليوم. فصل قصير يختزل كلّ المشهد. سوريا التي عرفناها لم تعد موجودة. لم يعد من سؤال سوى هل تنجح إيران في إقامة دولة علوية تابعة لها ذات امتداد في لبنان؟
مثل هذه الدولة، التي لا يمكن أن ترى النور يوما، نهاية لحلف الأقلّيات الذي نادى به محمد ناصيف وعمل من أجله حافظ الأسد رافعا شعاري “المقاومة” و”الممانعة” في حين ليس مسموحا بتحليق عصفور في الجولان منذ العام 1974..