الواضح أن إيران ما زالت مقتنعة بأن الأميركيين يعملون لديها، وأنه سيمكنها متابعة سياسات المالكي عن طريق العبادي، حتى لو تظاهرت بغداد بالتقرب من العرب عموما.
ليس هناك أمر طبيعي أكثر من أن يزور رئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي طهران. خصّ العبادي العاصمة الإيرانية بأوّل زيارة خارجية بعد اكتمال تشكيل حكومته التي باتت تضمّ وزيرا للداخلية ليس بعيدا عن التوجه الإيراني.
من الواضح أن العبادي سعى، على وجه السرعة، إلى إيجاد توازن بين إيران والعالم العربي الذي كان العراق ينتمي إليه إلى ما قبل فترة قصيرة. لذلك، تعمّد زيارة عمّان بعد طهران وإجراء محادثات مع الملك عبدالله الثاني، الذي كانت بلاده أوّل من شن حربا على “داعش” وذلك عندما كانت هناك خلايا إرهابية تعمل في الأراضي العراقية بقيادة “أبو مصعب الزرقاوي” الذي قُتل في ظروف ليس مستبعدا أن تكون الأردن لعبت دورا في التهيئة لها. تلك الخلايا الإرهابية تحوّلت إلى “داعش” لاحقا، بعدما وجد من يريد استخدامها في طهران ودمشق تحت شعار “مقاومة” الاحتلال الأميركي للعراق.
ما هو طبيعي أكثر من زيارة العبادي لإيران، أن يُبلغ “مرشد” الجمهورية الإسلامية علي خامنئي رئيس الوزراء العراقي أنه ليس في حاجة إلى “قوات أجنبية” لمحاربة “داعش” التي ما تزال تحتل الموصل، وتهدّد بغداد لأسباب أكثر من معروفة.
في مقدّمة هذه الأسباب ممارسات حكومة نوري المالكي، السعيدة الذكر، التي عملت كلّ شيء من أجل أن توفّر مناطق عراقية ذات كثافة سكانية سنّية تكون حاضنة لـ”داعش”.
يبدو كلام خامنئي، الذي قابله كلام أردني عاقل عن ضرورة توحيد كلّ الجهود لمحاربة “داعش”، أكثر من مهمّ نظرا لأنّه يعكس مخاوف إيرانية من أن لا تعود إيران، عبر وجودها الذي يرتدي أشكالا عدة، القوة الأجنبية الوحيدة في العراق. فالعراق مضطر هذه الأيّام إلى الاستعانة، أكثر فأكثر، بالقوة العسكرية الأميركية في حال كان مطلوبا الحؤول دون تقدّم “داعش” في اتجاه بغداد.
يمكن لزيارة العبادي لطهران أن تكون مفيدة، خصوصا في حال ساهمت في إعادة التوازن المفقود في العلاقات بين البلدين، وفي حال تبيّن أن زيارة الأردن لم تكن لمجرّد ذرّ الرماد في عيون العرب، خصوصا أهل الخليج.
هل في استطاعة العبادي القيام بالخطوة المطلوبة المتمثلة، قبل كلّ شيء، بفرض توازن بين الطوائف والمذاهب والمناطق والقوميات داخل العراق نفسه؟
اختل التوازن بين العراق وإيران منذ قرّر جورج بوش الابن التخلّص من نظام صدّام حسين العائلي- البعثي، فكانت حرب العام 2003 التي لم تغيّر العراق فحسب، بل غيّرت أيضا الشرق الأوسط كلّه. كانت تلك الحرب بداية زلزال معروف كيف بدأ، وليس معروفا كيف سينتهي، أو أين سينتهي في يوم من الأيّام.
لم تكتف إيران بقبول الهدية الأميركية التي اسمها العراق. قرّرت أن يكون العراق جُرما يدور في فلكها، وصولا إلى فرض حكومة عراقية تابعة لها مئة بالمئة، تلت تقدّم قائمة الدكتور إياد علاوي في انتخابات السابع من مارس 2010 ومنعه من تشكيل حكومة.
استطاعت إيران، وقتذاك، بسط نفوذها على العراق بعدما فرضت نوري المالكي رئيسا للوزراء، وبعدما قرّر الرئيس باراك أوباما إعطاء الأولوية للانسحاب العسكري من العراق وفق الشروط التي تناسب إيران. لم يترك أوباما لشخص مثل المالكي أيّة حجة يمكن أن يستخدمها في مواجهة المدّ الإيراني.
مرّة أخرى لعبت الولايات المتحدة الدور المطلوب منها إيرانيا، وذلك من حيث تدري أو لا تدري. والأرجح أنّها كانت تدري. بل تدري أكثر من اللزوم، خصوصا متى دققنا في تصريحات أوباما عن الإرهاب في الشرق الأوسط، وميله إلى تحميل بعض الدول العربية المسؤولية عن انتشاره وتغذيته.
هل آن أوان استعادة العراق ما يشبه التوازن في العلاقة مع إيران ومدّ الجسور مع العرب، أم أنّ همّ العبادي محصور في طمأنة طهران إلى أن شيئا لم يتغيّر مع رحيل المالكي، وأنّ خروج الرجل لا يعني أي تبديل في النهج الذي يفترض في أية حكومة عراقية إتباعه؟
إنّه النهج المتبع منذ اليوم الذي قرّرت فيه إدارة بوش الابن الانتهاء من العراق الذي عرفناه، والذي كانت ترجمته تكريس التهميش العملي للسنّة العرب عبر تشكيل مجلس الحكم المحلي والإعلان عن حلّ الجيش العراقي استنادا إلى حجج أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها واهية.
لدى حيدر العبادي، الذي تعمّد قبل توجّهه إلى طهران زيارة المرجع الشيعي الأعلى آية الله السيستاني في النجف، لعلّ ذلك يؤمّن له دعما معنويا، وحججا كثيرة يمكن أن يقارع بها الإيرانيين.
في مقدّمة هذه الحجج أنّ السياسات المتبعة في عهد المالكي، بما في ذلك التدخل المباشر في عملية ذبح الشعب السوري بواسطة ميليشيات مذهبية، عادت بالخراب على العراق. مثل هذه السياسات أغضبت المكوّن الكردي، ودفعت بشخص عاقل مثل مسعود بارزاني إلى التلويح باستفتاء يطرح موضوع استقلال كردستان.
الأخطر من ذلك كلّه أن هذه السياسات، التي هي في واقع الحال سياسات إيرانية، وفّرت كلّ ما يلزم كي تنتعش “داعش”. فلا شيء ينعش “داعش” غير السياسات الداعشية. بكلام أوضح ليس ما يفيد “داعش” السنّية سوى “الدواعش” الشيعية.
ليس بالطائفية والمذهبية يمكن محاربة “داعش” ومنعها من الوصول إلى بغداد. كان يمكن لهذا التنظيم المتخلف أن يحقّق ذلك، لولا سلاح الجو الأميركي الذي منعه حتّى الآن من التقدّم في أي اتجاه كان، بما في ذلك العاصمة العراقية وأربيل الكردية.
هل من سياسات جديدة يطرحها العبادي على إيران والأردن.. أم أن كلّ شيء سيبقى على حاله، وسيقنعه الإيرانيون بأن كلّ ما عليه عمله هو استخدام الأميركيين في الحرب على “داعش”، ثمّ الاستغناء عنهم بمجرّد انتهاء المهمّة التي أتوا من أجلها؟
الواضح، أقلّه إلى الآن، من خلال ما صدر عن كبار المسؤولين في طهران، أن إيران ما زالت مقتنعة بأن الأميركيين يعملون لديها وأنّه سيمكنها متابعة سياسات المالكي عن طريق العبادي، حتّى لو تظاهرت بغداد بالتقرّب من العرب عموما. هل هذا ممكن؟ هل إدارة أوباما بمثل هذه السذاجة؟
الجواب بكلّ بساطة، أن كلّ شيء وارد مع إدارة أميركية رسمت في الماضي القريب الخطوط الحمر للنظام السوري وأكّدت ذلك بلسان باراك أوباما نفسه. ولما تجاوز النظام هذه الخطوط باستخدامه السلاح الكيميائي لقتل شعبه، وكان ذلك قبل سنة وشهرين تقريبا، بدأت ترى الأحمر بكل الألوان.. ما عدا الأحمر.