خيرالله خيرالله
لم تكن الانتخابات الاردنية الاخيرة سوى خطوة اخرى على طريق طويل اسمه الاصلاح السياسي يصبّ في بناء دولة مؤسسات حقيقية فيها مجلس للنواب يتوزع اعضاؤه على احزاب سياسية.
يؤمل بأن تتوزع هذه الاحزاب على الموالاة والمعارضة التي يفترض ان تتنافس في مجال خدمة المواطن بعيدا عن المحسوبيات. لذلك شدّد الملك عبدالله الثاني في الخطاب الذي القاه في افتتاح الدورة غير العادية لمجلس الامة السابع عشر على اهمية المضي في بناء المؤسسات الاردنية وتفعيلها بدل ان تكون هذه المؤسسات مجرد مواقع يشغلها موظفون لا يفيد عدد لا بأس به منهم البلد في شيء. مثل هذا الوضع السيء الذي تعاني منه الاردن يمثّل افضل تعبير عن ظاهرة اسمها البطالة المقنعة. من الواضح أن هناك قرارا سياسيا بتجاوز البطالة المقنعة والتصدي لها وذلك عن طريق البدء بجعل اعضاء البرلمان يؤدون الدور الطلوب منهم في مجال الاهتمام بفعالية المرافق والمؤسسات العامة ومراقبة العمل الحكومي بشكل علمي والمساعدة في ايجاد فرص عمل للشباب...بدل الغرق في المزايدات والتلهي بالشعارات البالية!
يكتسب كلام عبدالله الثاني الذي تضمنه خطاب العرش اهمّية خاصة. فقد جاء بعد انتخابات نيابية اصرّ على اجرائها استنادا الى قانون يرضي معظم الاردنيين ولا يستجيب للطموحات الشاذة للاخوان المسلمين الذين ارادوا الضغط من اجل تحقيق هدف واضح. يتمثّل هذا الهدف بأن يكون هناك قانون انتخابي على قياسهم يضمن لهم الفوز في الانتخابات مستفيدين من ركوب موجة "الربيع العربي" ومن تجربتي مصر وتونس.
من سوء حظ الاخوان أنهم لا يدركون أنّ الاردن ليست لقمة سائغة وأنّ مشروعهم فيه سيلقى معارضة شديدة، بل مقاومة شرسة. في الاردن ملك يعرف من هم الاخوان وماذا يريدون. الاهمّ من ذلك أنه يعرف أن الاردن،التي آوت الاخوان عندما كانوا مطاردين في كلّ المنطقة العربية أيّام المدّ الناصري، ليست في حاجة الى تجربة الحزب الواحد، بصيغتها الاخوانية، بمقدار ما هي تحتاج الى تطوير نظامها القائم منذ تسعين عاما. هذا النظام قائم اوّلا على الشراكة بين مؤسسة العرش والشعب بكلّ فئاته.
بفضل هذه الشراكة، لم تنفع مقاطعة الاخوان للانتخابات ولا تهويلهم بالشارع على الرغم من وجود عوامل كثيرة ارادوا الاستفادة منها. في مقدّم هذه العوامل سعي المحور الايراني- السوري، بكلّ الوسائل، الى اثارة اضطرابات في الاردن، لعلّ ذلك يساعد النظام السوري، الذي دخل منذ عامين في مواجهة دموية مباشرة مع شعبه، في تحويل الانظار عمّا يدور على الارض.
تبيّن مع مرور الايّام أن الاردن قادرة على المقاومة حتى في الظروف الصعبة. والظروف الصعبة حاليا هي الازمة الاقتصادية التي تعاني منها المملكة من جهة والازمة السورية من جهة اخرى. هناك في المرحلة الراهنة خمسة الاف سوري او اكثر يلجأون يوميا الى الاردن. أن يتمكن بلد يمتلك موارد محدودة من مواجهة هذا الوضع اقرب الى معجزة من أيّ شيء آخر. من يتمعن في الارقام وبحجم الضغوط على الاردن يكتشف أن المملكة استطاعت بالفعل تحمّل ما لا يستطيع احد على تحمّله.
ما الذي كان في استطاعة دولة مثل الاردن عمله في هذه الظروف؟ هل كان عليها الاستسلام للاخوان المسلمين ومشروعهم الذي يمكن اختصاره بمجموعة من الشعارات التي لا تقدّم ولا تؤخر، بل تمثل العجز، ولا شيء غير العجز، عن مواجهة اي مشكلة حقيقية يعاني منها البلد؟ هل كان على الاردن ان تصبح مصر اخرى او تونس اخرى، كي يرتاح بال الاخوان؟ ام كان على الاردن الاستسلام في النهاية لمشروع الوطن البديل الاسرائيلي كي يستغرق الاخوان في التصفيق؟
كلّ ما في الامر، أن في الاردن ملكا عصريا على تماس ما يدور في العالم وفي الجوار المباشر للاردن وفي الاردن نفسها. ملك يعرف تماما ما يدور في الشارع. يستجيب لرغبات الشارع، لكنّه لا ينقاد لها.
هذا هو الفارق بين المملكة الاردنية الهاشمية من جهة وكلّ من مصر وتونس وليبيا من جهة اخرى.
كانت الانتخابات الاخيرة، بكلّ بساطة انتصارا في جولة مهمة من حرب طويلة تستهدف القضاء على التخلّف. يخوض هذه الحرب بلد لا يمتلك ثروات طبيعية تذكر، لكنه يمتلك الانسان. لقد ابدع الاردنيون في ميادين مختلفة. ما يدعوهم اليه عبدالله الثاني الآن هو الابداع في مجال الممارسة السياسية. وهذا يعني العمل من اجل "انجاح مرحلة التحول التاريخية وافراز الحكومات البرلمانية وتطوير ممارستها". هذا ما قاله الملك في خطاب العرش مضيفا:"نريد الوصول الى
استقرار نيابي وحكومي يتيح العمل في مناخ ايجابي لاربع سنوات كاملة ما دامت الحكومة تحظى بثقة مجلس النوّاب وطالما حافظ المجلس على ثقة الشعب".
هناك من دون ادنى شك عوامل كثيرة تلعب ضدّ الاردن. لكنّ هناك ايضا عاملين يساعدانها في مواجهة المرحلة الراهنة. العامل الاوّل بداية ظهور وعي لمدى خطورة الاخوان المسلمين والآخر الاقتناع بأنّ الخط الاصلاحي مستمر وأن لا عودة عنه. صحيح أن هناك تضحيات لا مفرّ منها، بدليل الاضطرار الى زيادة سعر المحروقات، لكنّ الصحيح ايضا ان هناك وعيا لضرورة تمتين الجبهة الداخلية.
لا خيار آخر امام الاردنيين غير المواجهة. عليهم تحملّ مسؤولياتهم مثلما تحمّل الملك مسؤولياته في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة التي يمرّ فيها الشرق الاوسط. أنها مرحلة اصعب بكثير من تلك التي تلت قيام دولة اسرائيل على ارض فلسطين في العام 1948. انها مرحلة لا تشبه سوى اعادة رسم خريطة المنطقة نتيجة انهيار الدولة العثمانية في العشرينات من القرن الماضي.