لا حرب روسية أو إيرانية على 'داعش'. هناك حرب على الشعب السوري والمعارضة المعتدلة بغطاء أميركي. وهناك محاولة لتحسين مواقع النظام كي تقبل المعارضة بتشكيل حكومة وحدة وطنية.
كان طبيعيا تعليق أعمال لقاء جنيف في ضوء حوار الطرشان الدائر فيه. لا يمكن أن يكون هناك من معنى للقاء المخصص للأزمة السورية في غياب اتفاق بين القوى المؤثرة، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة وروسيا، على أنّ المرحلة الانتقالية تستهدف نقل السلطة، أي خروج بشّار الأسد ونظامه من دمشق. ولكن ما العمل عندما تكون هناك سياسة روسية ذات أهداف واضحة، فيما الإدارة الأميركية تدعم هذه السياسة القائمة على التخلّص من الشعب السوري؟
كلّ ما عدا ذلك، أي كلّ ما يبتعد عن المرحلة الانتقالية تمهيدا للانتهاء من النظام، إضاعة للوقت ليس إلّا وتجاهل لواقع يتمثّل في أنّ النظام السوري سقط ولا وجود لحلول سياسية أو عسكرية يمكن أن تعيد الحياة إليه بأيّ شكل من الاشكال. هل تفهم روسيا، ومعها إيران، ذلك؟
من يعود قليلا إلى خلف، يكتشف أن ليس في الإمكان التفاوض مع النظام السوري أو الدخول معه في نقاش من أيّ نوع. هذا النظام لا يمكن التعاطي معه بعقلانية لسبب في غاية البساطة. في أساس هذا السبب أنّه لا يؤمن بتقديم أيّ تنازل من أيّ نوع. هذا نظام لا يفاوض. عندما يكون قويّا، حتّى لو كان مصدر قوّته كما هي الحال الآن، هو الخارج، يؤمن بأنّ أيّ تنازل علامة ضعف. وعندما يكون ضعيفا، لا يقدم على أيّ خطوة ذات طابع إيجابي نظرا إلى الحاجة المستمرّة لظهوره في مظهر القويّ، القويّ على شعبه طبعا.
كل شيء مذكور في الأجندة الحمراء
في مثل هذه الأيّام قبل أربعة وثلاثين عاما، ارتكب النظام السوري مجزرة حماة التي راح ضحيّتها الآلاف. تذرّع بجرائم الإخوان المسلمين، وكان بعضها جرائم حقيقية، ليقضي على مدينة ويدمّر أحياء كاملة فيها. أراد أن تكون حماة أمثولة لكلّ سوري يتجرّأ على رفع رأسه. من لم يتعّظ من مجزرة حماة، اتّعظ من مجزرة سجن تدمّر لاحقا بعد تعرّض حافظ الأسد لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة. كان الانتقام بالإغارة على نزلاء السجن وقتل معظمهم بطريقة وحشية.
مع مرور الوقت وتقبّل العالم لمجزرة حماة، باعتبارها حدثا عارضا وعابرا في آن، تابع النظام السوري مسيرته التي كان بدأها منذ اللحظة الأولى لوصول حافظ الأسد إلى السلطة وخوض حرب تشرين في 1973 تمهيدا لدخول لبنان رسميا في العام 1976. دخلت قوات النظام السوري وأجهزته لبنان بغطاء عربي وأميركي وإسرائيلي من أجل وضع اليد على منظمة التحرير الفلسطينية من جهة ووضع الأسس لحلف الأقلّيات بدءا بإضعاف الوجود المسيحي في الوطن الصغير من جهة أخرى. لم تنج مدينة أو قرية لبنانية من ظلم النظام السوري الذي استهدف أوّل ما استهدف القرى المسيحية الحدودية مثل القاع والعيشية، ثم زحله والأشرفية في بيروت، كما لم يوفّر يوما طرابلس السنّية التي ركّز بشكل مستمرّ على إخضاعها.
كلّما عاد المرء إلى الخلف، يكتشف أن النظام السوري لم يفاوض يوما من أجل تحقيق هدف معيّن. يفاوض من أجل كسب الوقت فقط. لم يرغب يوما في استعادة الجولان. لذلك كانت مفاوضاته من أجل تكريس حال اللاحرب واللاسلم مع إسرائيل، وهي حال تصبّ في مصلحة النظام وفي مصلحة إسرائيل في الوقت ذاته.
في المرّتين اللتين استسلم فيهما النظام السوري، لم يحصل أيّ تفاوض معه. في مطلع العام 1999، طرد الزعيم الكردي التركي عبدالله أوجلان من أراضيه عندما هدّدت أنقرة دمشق بدخول الجيش التركي من حلب وخروجه من الجولان. قبل ذلك كان النظام السوري ينكر أن يكون أوجلان في دمشق أو في الأراضي اللبنانية الواقعة كلّها، وقتذاك، تحت السيطرة السورية. لم تنفع مع النظام كلّ الأدلة التي قدّمها الجانب التركي، بما في ذلك عنوان الشقة التي يقيم فيها عبدالله أوجلان في العاصمة السورية وأرقام هواتفه وأسماء الأشخاص الذين تحدّث إليهم أو اتصلوا به!
في المرّة الثانية، سحب النظام السوري جيشه من لبنان بعدما نزل المواطنون إلى الشارع احتجاجا على مشاركته أو تغطيته جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في الرابع عشر من شباط ـ فبراير 2005. لم يكن من شكّ لدى المواطن العادي في لبنان أن النظام السوري وراء الجريمة. بدأت تظهر الوقائع بالنسبة إلى هويّة الطرف المنفّذ لاحقا. لم يتفاوض اللبنانيون مع النظام السوري. كانوا صوتا واحدا يطالبونه بالانسحاب. لم يكن لدى بشّار الأسد من خيار آخر غير الرحيل بعدما حاول تغطية الجريمة بسلسلة من التفجيرات في مناطق مسيحية بهدف إثارة النعرة الطائفية، على غرار ما كان يحصل منذ منتصف سبعينات القرن الماضي.
من هذا المنطلق، واستنادا إلى تجارب الماضي القريب، ليس واردا تحقيق شيء في جنيف. تحوّل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ستافان دي ميستورا إلى مجرّد مدير للأزمة. لا يعود عجز دي ميستورا إلى أنّه لا يعرف شيئا عن سوريا والسوريين والنظام السوري فحسب، بل تكمن مشكلته الكبرى أيضا في أنّ روسيا وإيران لا تريدان حلّا في سوريا. إنّهما تعرفان أن النظام السوري يرفض الاعتراف بأنه انتهى منذ فترة طويلة، لكنّه على استعداد لتوفير الغطاء لعملية إبادة الشعب السوري وتهجيره من أرضه.
لا حرب روسية أو إيرانية على “داعش”. هناك حرب على الشعب السوري والمعارضة المعتدلة بغطاء أميركي. وهناك محاولة لتحسين مواقع النظام كي تقبل المعارضة بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو شيء من هذا القبيل من دون أخذ في الاعتبار لأبسط الحقائق على الأرض. أبسط الحقائق أن الأكثرية الساحقة من الشعب السوري ترفض النظام، تماما مثل أهل حماة الذين لم ييأسوا من أنّ العدالة ستتحقّق يوما وأنه لا بدّ من أن تتحقّق مهما طال الزمن واستمرّ الظلم.
انعقد جنيف ـ 3 الذي يمكن تسميته لقاء أو اجتماعا أو مفاوضات غير مباشرة. لن تتحقّق أيّ نتائج. تكمن الإيجابية الوحيدة في أن المعارضة لم تقاطع. على العكس من ذلك كرّرت مطلبها القاضي بتنظيم عملية رحيل النظام. الأكيد أن الاستسلام الأميركي لروسيا لن يساعد في تحقيق أيّ تقدم، ولكن هل يمكن للوضع القائم الاستمرار إلى ما لا نهاية؟
ثمّة حلقة ناقصة في جنيف. تتمثّل هذه الحلقة في غياب الرغبة الأميركية ـ الروسية في إنهاء الأزمة السورية. كل ما يمكن قوله عن لقاء جنيف المقرّر له أن يستمرّ ستة أشهر أنّه يستهدف الانتهاء من سوريا لا أكثر. كيف ذلك؟
يعتبر دي ميستورا أصلا رجل علاقات عامة لا علاقة له بالسياسة والشرق الأوسط وتعقيداته. يستطيع استخدام خبراته في هذا الحقل من أجل إدارة أزمة لا أفق لها سوى الوصول إلى تفتيت للبلد، أكثر مما هو مفتّت. الضمانة الوحيدة لبلوغ المطلوب من جنيف ـ 3 متابعة الحرب على الشعب السوري كي يشعر النظام أنّه قادر على الانتصار على شعبه!