كان يمكن أن يحدث غير ما سنراه اليوم وغداً. كان يمكن أن يقتدي الرئيس دونالد ترمب بأسلافه فتكون محطته الأولى في أولى جولاته الخارجية دولة قريبة في القارة الأميركية أو دولة أطلسية من قماشة بريطانيا. وكان يمكن للانطباع الذي خلفته الأيام الأولى لترمب في البيت الأبيض أن يتحول نوعاً من سوء التفاهم الدائم مع العرب والمسلمين.
لو سارت الأمور في ذلك الاتجاه، لدفعنا أضعاف ما دفعناه في السنوات الماضية. الشرق الأوسط مريض بالإرهاب والتطرف وسياسات زعزعة الاستقرار وانتهاك الحدود الدولية وتذويب الجيوش لمصلحة الميليشيات. وهو مريض أيضاً بالخوف والبطالة والفقر وانسداد الأفق. لقد شاهدنا أبناءه يتعلقون بقوارب الموت فراراً من جحيم أوطانهم.
من حسن الحظ أن الفرصة لم تضع. وأن السعودية اختارت قبل عامين مغادرة السياسة التي تعتبر الانتظار أفضل مستشار. أدركت القيادة السعودية الحالية أن التغيير شرط من شروط حماية الاستقرار وبناء الازدهار. تغيرت لغة التخاطب مع الملفات المطروحة في الداخل. وتغيرت لغة الدبلوماسية السعودية في الخارج. صارت المبادرة هي القاعدة، واستناداً إلى تصورات طموحة مبنية على لغة المصالح المتبادلة والشراكات وتقاسم المسؤوليات.
في مارس (آذار) الماضي حمل ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان التصور السعودي إلى البيت الأبيض. تصور يؤكد وجود مساحة واسعة لبناء شراكة استراتيجية تخدم مصالح البلدين في الاقتصاد والسياسة والأمن وتفتح نافذة أمل في إقليم الشرق الأوسط الذي كاد يعلن إقليماً منكوباً.
للأرقام سطوة لا تملكها العبارات العمومية والشعارات التقليدية. في رؤية 2030 تغيير كبير في السعودية. وفرص هائلة للاستثمار. ومنافع متبادلة تصلح جسراً صلباً لعلاقات مستقبلية. وفي موازاة الأرقام قرار سعودي حازم بخوض مواجهة شاملة ضد الإرهاب ومصانع التطرف. وقرار آخر بالاضطلاع بدور كبير في إعادة الأمن والاستقرار إلى الإقليم المنكوب، وتحمل تبعات هذا الدور بالشراكة مع الحلفاء.
أدركت إدارة ترمب أهمية استعادة حرارة العلاقات مع الرياض. وأدركت أيضاً أهمية البوابة السعودية في العبور إلى العالمين العربي والإسلامي، حيث تمتلك السعودية شرعية وقدرة وعلاقات ورصيداً. عبور هذه البوابة يوفر لأميركا فرصة استعادة الدور القيادي في المنطقة بعد سنوات من التردد والسياسات الانسحابية. عبور يوفر للسعودية أيضاً فرصة استعادة العرب دورهم في حماية استقرارهم ودولهم بعد سنوات من تحول الأرض العربية ملعباً لطموحات المكونات الأخرى في الإقليم.
شهدت العلاقات السعودية - الأميركية سلسلة من القمم على مدار سبعة عقود. واجتازت العلاقات القوية سلسلة من الامتحانات والصعوبات. لكن الاطلاع على برنامج زيارة الرئيس الأميركي للسعودية يدفع إلى الاعتقاد أننا قد نكون أمام حدث غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين البلدين. يلمس زائر الرياض ذلك من حجم الاستعدادات والاتفاقات والرسائل.
ما ستشهده الرياض اليوم وغداً هو محاولة شجاعة وجدية لبناء جسر سعودي - أميركي تمرّ عبره العلاقات بين شعبين ودولتين. علاقات تشمل ميادين الدفاع والسياسة والاقتصاد والإفادة من التقدم التكنولوجي والتعليمي الأميركي. وتمرّ عبره أيضاً شراكة في مواجهة صارمة وشاملة، ليس فقط ضد الإرهاب، بل أيضاً ضد التطرف الذي يرفض الاعتراف بالآخر والتعايش معه والتعاون. لقد حوّلت السعودية مواجهة التطرف إلى برنامج تنهض به مؤسسات تدرك خطورة استمرار منطق الاصطدام بالعالم والانفجار فيه.
وفي موعد الرياض فرصة لتصحيح صورتين. صورة السعودية لدى قسم من الرأي العام الأميركي والغربي. وصورة أميركا لدى قسم من الرأي العام العربي والإسلامي. إن طموح الشاب السعودي اليوم هو أن يعيش في دولة مستقرة ومزدهرة. أن يحصل على تعليم متطور وأن ينتسب إلى جامعة عصرية وأن يحصل على فرصة عمل في اقتصاد دينامي يتكيف مع الثورات التكنولوجية المتتالية، وأن تكون بلاده دولة فاعلة تدافع عن مصالحها وتتحمل مسؤوليتها في شؤون الاستقرار والسلام. نجحت السعودية في تقليم أظافر الأفكار التي تدعو إلى مواجهة الآخر بسبب غياب التطابق. وحين يكون هذا طموح الشاب السعودي يمكنه أن يلتقي على الجسر مع الشاب الأميركي والغربي. وواضح أن التغيير الذي تشهده السعودية في هذا المجال يلقى صداه في العالمين العربي والإسلامي الذي سيلتقي قادته الرئيس ترمب على أرض الرياض.
تشكل القمة الأميركية - السعودية اليوم رداً كبيراً وحازماً على تحديات خطرة أنهكت المنطقة. تشكل رداً على هجمات 11 سبتمبر (أيلول) التي استهدفت تفجير العلاقات الأميركية - السعودية. وتشكل رداً على سياسة تصدير الثورة الإيرانية، خصوصاً بعدما أدت الاختراقات الإيرانية إلى إلهاب مشاعر قسم من السنة ودفعتهم إلى تطرف مقابل. وتشكل القمة أيضاً رداً على مرحلة الانسحاب الأميركي من المنطقة وانحسار الدور العربي فيها.
مواعيد الرياض فرصة لكل أطرافها. فرصة أميركية وفرصة سعودية تتحول غداً فرصة عربية وإسلامية أيضاً. إذا كان التنفيذ في المرحلة المقبلة بمستوى قرار تحديد المواعيد، فإن ما يحدث في الرياض سيغير فعلاً قواعد اللعبة في المنطقة. نجاح الجسر السعودي - الأميركي يمهد لجسر أميركي ثابت مع العالمين العربي والإسلامي. ومن شأن هذا الجسر أن يعيد صياغة المشهد الدولي.