غسان شربل
رقصة التانغو عذاب. لا تستطيع الاستقالة من شريكتك. وعلاوة على الفروسية عليك إبداء اللهفة واللطف. ليسري التيار بينكما. وأن تضبط خطواتك على خطواتها. وأن تنصاع للموسيقى. وأن تنساب معها. الحاكم العربي يهوى الرقص وحيداً. يكره التانغو. سواء كان اسم الشريك دستوراً أو برلماناً أو زعيم معارضة. الشريك عدوك. يغتال حريتك. وحقك المطلق في احتكار التلاعب بالأرزاق والأعناق.
في 1980 باشر «السيد الرئيس القائد» اجتثاث حزب «الدعوة» فلم يكن أمام أعضائه غير الفرار في اتجاه إيران وسورية. هناك وقعت على عاتق «جواد» مهمة إدارة مكتب «الجهاد» في الحزب. كان أقصى ما يتطلع إليه أن ينجح في تسريب عبوة أو مقاتل ليعاقب نظام البعث غالباً في الداخل وأحياناً في الخارج. طالت الإقامة في المنفى. وحين تعب بعض الرفاق وقالوا «إن العراق انتهى» أجاب بلهجة التحدي «سأعود إليه ولو على كومة تراب».
كان يمكن أن يهرم في دمشق مع اسمه الحركي «جواد» محاطاً بالكتب الكربلائية وديوان المتنبي. لكنها الأقدار. ارتكب جورج بوش الابن مغامرته فانفتحت الأبواب. أغلب الظن أن «جواد» لم يتوقع. ولم يحلم. أن يشارك في صنع الدستور. وأن يترك بصماته الحانية على «اجتثاث البعث». وأن تلتقي الأختام على طاولته. وأن يكون صاحب الكلمة الأخيرة. مليون عسكري. وميزانية هائلة. وأن يجعل من دوره حاجة إيرانية. وحاجة أميركية. وأن تلتقي طهران وواشنطن على دعمه على رغم افتراقهما في كل مكان. تصرف «جواد» بجرأة الملاكم. أطلق «صولة الفرسان» ضد «جيش المهدي» فاعتقدت أميركا أنه سيلملم أشلاء الدولة. ناور وحرم الأميركيين من ترك «قوة تدريب» بعد انسحابهم فابتهجت إيران «بحليف لا يخطئ في المسائل الجوهرية والدليل دعمه لبشار الأسد على رغم غياب الود بين الرجلين».
أقام «جواد» تحت ثياب نوري المالكي. شجعه على تعميق الخلل في التوازنات. لإغلاق كل نافذة أمام الأعداء. لقطع الطريق على أي حلم بالعودة إلى ما كان. نظر إلى المكون السني فشم رائحة انقلاب. ونظر إلى المكون الكردي فشم رائحة انفصال. أخذته الشكوك بعيداً. كاد أن يدخل الجيش في حرب جديدة مع الأكراد. أرسل الجيش لضرب «القاعدة» فاشتعلت الأنبار وها هي تقطر دماً.
في الأسبوع الأخير من أيار (مايو) 2010 كنت في بغداد الخارجة من انتخابات نيابية طاحنة. قال لي سياسي عراقي: «إذا فاز المالكي بولاية ثانية سنشهد ولادة ديكتاتور جديد. تصور أنه بعد توقيعه قرار إعدام صدام حسين حرص على رؤية جثته ومعاتبته قائلاً ماذا فعلت بالعراق»؟ وضعت الكلام في خانة المبالغة أو الحسد لكنني طلبت مقابلة الرجل وتفضل باستقبالي ونشرت «الحياة» الحديث في 26 من ذلك الشهر.
سألت المالكي هل التقى صدام يوماً فأجاب :»أبداً، لكنني اضطررت بعد إعدامه، وبعد إلحاح من بعض الإخوة. وقفت أمام جثته نصف دقيقة وقلت له: ماذا ينفع إعدامك هل يعيد لنا الشهداء والبلد الذي دمرته»؟ ولم يخف أنه كان يفضل أن يبقى صدام «سجيناً مذلاً ومهاناً كنموذج للدكتاتوريين لكنها رغبة الناس وعائلات الشهداء».
سألته هل سنراه مجدداً رئيساً للوزراء فقال: «هذا متروك للأيام. لا يهمني كثيراً أن أكون رئيس وزراء. يهمني أن يبقى البلد في حالة تقدم واستقرار». استفزني جوابه فقد علمتني المهنة أن الزهد ليس من خصال السياسيين خصوصاً إذا كانوا من فئة الملاكمين. قلت له ممازحاً: «دولة الرئيس أنا كصحافي أحب من يحب السلطة وليس من يقول إنه لا يحبها» فأجاب: «ربما لا تصدق، لكنني لا أحب شيئين هما السلطة والمال، ولولا الواجب الشرعي لن أكون رئيس وزراء. هذه مسؤولية شرعية ومسؤولية بلد، فحب الوطن من حب الله».
نفى المالكي إمكان «إدارة العراق من الخارج». وتوقع تحسناً في العلاقات مع السعودية وسورية. وقال: «السنة شركاؤنا وسنعطيهم كل ما يريدون لطمأنتهم وإشعارهم بأخوتنا».
وجدت الكلام جميلاً ولذيذاً لكنني أتساءل وأنا أعيد قراءته بعد أربعة أعوام، وفيما يتطلع المالكي إلى ولاية ثالثة، عما تحقق منه. أتساءل أيضاً ما إذا كان نوري الذي تولى رئاسة الوزراء لم يستطع طي صفحة «جواد» الذي كانه في المنفى.
قدر حاكم العراق أن يرقص منفرداً. رفض المالكي التزام قواعد التانغو مع مقتدى الصدر وعمار الحكيم. رفضها مع طارق الهاشمي وأسامة النجيفي. قطع الرقصة مع مسعود بارزاني. أضاع «جواد» الفرصة التاريخية التي أتيحت لنوري. «جواد» لا يحب التانغو.