طلال سلمان
عرفت العراق، بمعظم جهاته، ذات رحلة موصوفة على هامش «احتفالات الثورة» في النصف الثاني من تموز 1970. تجولنا تحت «قيادة» مندوبين من وزارة الإعلام بين أقصى شماله الكردي، السليمانية وأربيل، وغربه الموصل عاصمة محافظة نينوى وصولاً إلى الحدود المتقاطعة مع تركيا وسوريا مع محطة في سنجار، نزولاً إلى جنوبه حتى البصرة، مروراً بالقرنة حيث يتلاقى دجلة والفرات في ظلال «شجرة آدم» في الاندفاعة الأخيرة قبل أن يذوبا في شط العرب عند مدخل الخليج العربي... وتجولنا في الأهوار بواسطة المشحوف الذي يشكل وسيلة النقل الوحيدة في تلك المنطقة الفريدة في بابها حيث تبنى البيوت الفقيرة على جذوع الشجر وبأغصان النخيل... وشهدنا عرساً في ما يشبه المهرجان المائي الذي يغطي جمال الموكب فيه وزغاريد الفرح على بؤس الفقراء الذين يعيشون على سطح... الحياة.
دخلنا متحف التاريخ الحي، وشهدنا الامتداد الإنساني عبر الأزمنة، بالأديان السابقة على اليهودية والمسيحية والإسلام، أو المتفرعة بعدها في المذاهب المختلفة، وتعرفنا على «بهائيين» و«صابئة» و«أزديين» ـ يسميهم العامة «عبدة الشيطان»، وما هم بعبدته ولكنهم يفترضون أن «التقرّب منه وهو الجبار العنيد، أولى من عبادة الله سبحانه وتعالى الذي من طبيعته أنه «غفار رحيم» فلا يؤذي أحداً ولا يعاقب حتى الكافر»...
استقبلنا من لا يعرفنا من الناس، ودخلنا بيوتاً أهلها من الطيبة بحيث أصر بعضهم على دعوتنا إلى غداء أو عشاء، أو شاي بالحد الأدنى... واستمعنا إلى لهجات تختلط فيها الأعراق والأزمنة واللغات. وزعم لنا بعضهم أنهم هنا منذ بداية الخلق، وأن كونهم أقلية لا ينفي عنهم العراقة والأصالة والإيمان وإن اختلفوا في التفاصيل مع من يعتبرون أنفسهم من أتباع الديانات السماوية الثلاث، ولكنهم لا يقبلون التشكيك في إيمانهم بالله الواحد، ولو اختلفت الممارسات والطقوس وأنماط الصلاة.
فأما أهل الموصل فيلفتك، بداية، اعتزازهم بعروبتهم مع احتضانهم للأقليات الدينية والعرقية في محيط هذه المدينة الكبرى التي تضم بعض الصفحات الأولى للتاريخ الإنساني، كما تفاخر أن منها انطلقت القوات التي باشرت مواجهة الصليبيين لطردهم من المشرق.
قال لنا رجل دين «أزيدي» حين سألناه عن نشأة مذهبهم أو فرقتهم: أما نحن فمن بداية الخلق... وتحديداً من لحظة الاختلاف بين إله الخير وإله الشر (كما تسمونه أنتم). ولما كان إله الخير طيبا ولا يؤذي أحداً فقد انصرفنا إلى عبادة من تطلقون عليه أنتم «الجبار العنيد»..
استذكرنا فيها «ثورة الشواف» بشعاراتها الوحدوية، وقائمة من أبطال العمل القومي.. ونبهنا بعض أهلها إلى أن التمسك بالهوية العربية طبيعي في منطقة على الحدود مع «قوميتين» خارجيتين، إذ تطل المحافظة على كل من إيران وتركيا... وسألنا عن بيوت بعض أصدقائنا من أهل الموصل، فلمسنا اعتزازاً بكل مناضل أو مفكر أو قائد عسكري له تاريخه في العمل القومي. بالمقابل حدثنا من التقينا عن أقارب وأنسباء لهم في حلب، على الضفة الأخرى، وعن رفقة نضال مع العديد من «الشوام».. وتعبير «الشوام» هناك، كما في القاهرة، يشمل سوريا ولبنان ومعهما فلسطين.
أما في الجنوب فكانت لنا محطات في «المراقد المقدسة»، أي في كربلاء والكوفة، وفي دار العلم في النجف.. ثم اندفعنا مع «سواد العراق» في اتجاه البصرة.
كانت تلك الأرض الواقعة بين النهرين، والتي اشتهرت تاريخياً بالخصب، وقامت فيها حضارات متعاقبة، تتبدى جرداء «مسبخة»... وفي القصبات والقرى الممتدة بامتداد «الماء الحي» في المجرى العريض كانت مشاهد البؤس تتوالى، بينما المقاهي ذات المصاطب والبنوك الخشبية تغص بزبائنها الذين يدل مشهدهم على أنهم لا يتعبون من الجلوس لساعات يتحدثون في غير موضوع ومسابحهم تثرثر معهم، والرؤوس مغطاة بـ«الشماغ» والعقال الغليظ.
أما البصرة التي تجتمع فيها الطوائف جميعاً، الشيعة أساساً والسنة والمسيحيون، فمدينة جميلة، لا سيما في أحيائها العريقة ذات البيوت الأنيقة بالمشربيات التي تخفي ربات الخدور وتتيح لها أن ترى من تحب.. ثم إن لها مطارها، والمحطة الأخيرة للقطار.. ومن حولها تنتشر حدائق أشجار النخيل بالملايين.
أمام صور الفلاح العراقي نستعيد صور الفلاح المصري الذي يعطي أرضه محدودة المساحة عرق جبينه وعزم ذراعه، ويعيش لها لأنه يعيش بها: كلا الفلاحَين صاحب حضارة عريقة، وكلا البلدَين كان في التاريخ القديم إمبراطورية عظمى تمددت حتى السواحل الشامية، فلماذا بعدت المسافة بينهم وبين صنع التاريخ؟
في سامراء قمنا بزيارة مقام الإمامَين العسكريَّين، وسط جموع المؤمنين. لا مدافن هنا يؤتى إليها بأجداث المؤمنين من أفغانستان وباكستان وإيران ولبنان وكل بلاد فيها «شيعة» ليدفنوا في جبانتها، كما في كربلاء، حيث سعر متر الأرض يكاد يكون أغلى من نيويورك، بل هو الأغلى في العالم أجمع، كما أكد لنا بعض دارسي أسعار العقار: الأرض أغلى من إنسانها بكثير! الرمال أغلى من عرق الجباه ومن إبداعات العباقرة.
في السليمانية استضافنا الرئيس جلال طالباني، شفاه الله، وأهدانا اللباس القومي للأكراد مع خنجر مطعّم مقبضه بالصدف، وأقام لنا مأدبة، وروى لنا عشرات النكات، بعضها القليل عن الكرد وأكثرها عن زعامات العرب، ولا سيما قادة الأحزاب، الاشتراكية خصوصا والتقدمية عموماً.
أما في جلالا التي يعبرها نهر تحف بضفتيه أشجار معمرة من الصفصاف والبطم، فقد التقينا الملا مصطفى البرزاني ذا الوجه الذي قد من صخر... وقد أتعبه المصور الأوسترالي «روب» بتكتكات الكاميرا لكي يستطيع أن يلتقط له صورة بالملامح الطبيعية، وبعد أن ينسى أن ثمة من يصوره. وكان مغتبطاً بمشروع اللامركزية الذي طرح آنذاك والذي كان يراه أقرب إلى الفيدرالية دون أن يخرج من العراق وعليه. أرض الشمال صخرية، على عكس الجنوب، والمساحات القابلة للزراعة محدودة. وكركوك عقدة أبدية، فالأكراد يرونها من «أرضهم» برغم أن أهلها خليط من التركمان والأكراد والعرب، وإن كان البرزاني رأى ـ يومها ـ أن الحكم في بغداد يعمل على زيادة نسبة العرب بين أهلها حتى يخرجها من «الكيان الكردي».
فأما بغداد... فلقد عرفت أكثر من بغداد في الفترة بين الزيارة الأولى في تموز 1964، موفداً من دار الصياد حيث كنت أعمل، والزيارات المتوالية بين 1969 و1970، ثم الزيارة الأخيرة لمتابعة القمة العربية الطارئة (1978) التي أريد منها منع الرئيس المصري الراحل أنور السادات من إتمام الصلح مع العدو الإسرائيلي مقابل تقديم مساعدة فورية لمصر قيمتها خمسة مليارات دولار! وقد كلف بنقل «العرض»، آنذاك، الرئيس سليم الحص ومعه وفد في عداد أعضائه مستشار الشيخ زايد بن سلطان، أمير دولة الإمارات، أحمد السويدي. وقد رفض السادات استقبال الوفد ومن باب أولى «العرض السخي» لتثبيته على إيمانه بالعروبة والقضية المقدسة: فلسطين.
في الزيارة الأولى كانت بغداد مدينة كبيرة، بضواح عديدة واضحة الفقر... وفيها فندقان مميزان: فندق بغداد، وفندق الأمباسادور. أما في أواخر السبعينيات فكانت قد تمددت في الأرض السهلية المفتوحة على ضفاف دجلة فصارت مدينة كبرى بفنادق فخمة وأحياء راقية وغاب شاطئ دجلة وباعة المسقوف على امتداده الطويل بعدما بني القصر الرئاسي عند الشاطئ وصارت الضفاف منطقة عسكرية... وإلى جانبها مدينة كبرى أخرى لفقراء النازحين من الأرياف، ومن الجنوب أساساً، وكانت تسمى «الثورة»، ثم تضخمت حتى غدا سكانها في حدود المليونين وربما أكثر وقد بات اسمها «مدينة الصدر».
المسألة الطائفية كانت حاضرة دائماً في السياسة العراقية وفي ممارسات النظام الحاكم.. «فالشيعة»، الذين يشكلون الأكثرية من العراقيين كانوا مهمشين في السلطة التي كانت في أيدي «السنة»، مدنياً وعسكرياً (والبعض يعيد التهميش إلى فتوى المراجع الشيعية بتكفير كل من يشارك في الحكم مع إقامة دولة العراق الحديثة في ظل الاستعمار البريطاني... فابتعدوا عنها، ثم صار ابتعادهم تقليداً ثابتاً).
ومن أسف أن «إنصاف» الشيعة لم يتم إلا بعد الاحتلال الأميركي للعراق في آذار ـ نيسان 2003، وفي ظله... وكان بديهياً أن يتحول ـ بالعدوى ـ إلى «حرمان» للسنة!
والطائفية، كما نعرف في المشرق عموماً، تذهب بالوطنية والقومية، فتضرب «وحدة الشعب» والهوية الوطنية... وعودة الوعي، وطنياً وقومياً، بحاجة إلى ثورة تقيم حكماً وطنياً جامعاً، يواجه محاولات الشد والجذب بشعارات طائفية ومذهبية ولأغراض سياسية تتصل بالمحيط أكثر مما هي تعبير عن المصالح الوطنية للبلاد.
ومن أسف فلقد تعمق الشرخ الطائفي بينما هو في حقيقته صراع على السلطة، وقد وجد من يغذيه على جانبَي الحدود فضاع الوطن على الجميع وتهاوت دولته، ولسوف يحتاج العراق إلى زمن طويل قبل أن تستقر أحواله بحكم وطني جامع لدولة عربية كبرى وذات دور مؤثر في حاضر العرب ومستقبلهم.
وذلك حديث آخر في زمن آخر.
أما اليوم فعلينا أن نشهد حروب التكفير تشنها الجماعات مجهولة الأصول والأعراق جاهلية التفكير وإن قاد «مجاهدوها» الميامين السيارات رباعية الدفع، الذين جاؤوا يبشرون المسلمين بالدين الحنيف، فمن واجههم أو ساءلهم أو استوضح عن هويتهم رموه بالكفر فحكموا عليه بالإعدام رمياً بالرصاص وأمام الكاميرات ليكون عبرة لمن يعتبر.
ولقد مهّدت لهؤلاء الخارجين بتعصبهم من الدين وعليه الأنظمة التي «تقدمت بالبلاد إلى الخلف»، وتسببت في قسمة الشعب الواحد شعوباً وقوميات وأعراقاً مختلفة، فضلاً عن تقسيمها طائفياً ومذهبياً، عائدة بها إلى مفاهيم البداوة وجاهلية ما قبل الدين. فالتعصب هو الكفر مهما كثرت الركعات.
وعلينا ألا ننسى أن أهل الجنوب قد تحملوا دمار حربين شنهما نظام صدام، في أرضهم وعبرها الأولى ضد إيران ـ الثورة ـ والثانية ضد الكويت، وكلتاهما غير مبررة في منطلقها وثقيلة بوطأة الدم والخراب في نتائجها. أي أن القرار لغيرهم من أصحاب الأحلام الإمبراطورية المموهة بالعروبة أما العبء فعليهم وهم العرب العاربة.
وبين العراق وسوريا يتم، وبشكل منهجي، تدمير المدن ذات التاريخ عواصم الحضارة الإنسانية، كما يتم تشويه تاريخ هذه الأمة، وحرمانها من مستقبل أفضل.
إن الديكتاتورية ولاّدة كل الشرور: الطغيان والعسف والظلم وإقصاء الكفاءات وتدمير التعليم وسائر وجوه التقدم والطريق إليه.
فكيف إذا تصفحت الديكتاتوريات بالمذهبية والطائفية، مستعيدة ومعيدة تاريخ الفتنة الكبرى في القرن الحادي والعشرين، بما يدمر الأوطان والشعوب، ويفتح الأبواب على مصاريعها لأي طامع أو غاصب بالاحتلال المباشر أو المموّه بالعصبية المذهبية أو الطائفية.
لكنها ليست نهاية التاريخ، ومؤكد أن وطنية الإنسان العربي في أي قطر من أقطاره تظل أقوى من عصبيته الطائفية، وإيمانه بأن مستقبله في وحدته الوطنية هو الأصل وإلا أعيد إلى الجاهلية وظلمة التخلف بسيف التعصب لاغي الإنسانية والحق في حياة كريمة.