طلال سلمان
مؤكد أن اللبنانيين قد انتبهوا، مثلهم مثل سائر العرب في أقطارهم المختلفة، إلى خطورة القرارات التي اتخذها رئيس الحكومة العراقية الدكتور حيدر العبادي في ما يتصل بمكافحة الفساد وإلغاء المناصب التي لا مبرر لها في هيكلية الدولة وإلغاء المحاصصة التي ابتدعت لاسترضاء رؤساء الحكومة السابقين والنافذين عموماً، رجال دين ودنيا، أو بذريعة تعميم الفساد والهدر على قاعدة طائفية ومذهبية وعنصرية (حتى لا ننسى الأكراد)... وان ظل التركيز قائما على أصحاب القرار من الشيعة الذين تناوبوا على رئاسة الحكومة وبعض الوزارات والإدارات الدسمة فعاثوا فيها نهباً وفساداً.
ومؤكد ان اللبنانيين سيرون أنفسهم محظوظين لأن دولتهم لم تصبح ـ حتى هذه الساعة ـ دولة نفطية، وبالتالي فإن حجم الفساد فيها ما زال «متواضعا»، برغم ان ثمة من اندفع يحاول بيع النفط في البحر قبل اكتشافه عملياً، أو في البر، اعتماداً على تقديرات وتقارير لخبراء محتملين..
والحقيقة التي يعرفها الناس جميعاً، داخل العراق وخارجه، ان الفساد في أرض الرافدين قد تجاوز كل ما هو مألوف في البلاد العربية عموماً، بسبب غناها بالثروة النفطية، ومن ثم بسائر أسباب الثروة.
المألوف، عربياً، ان يكون المنهوب من المال العام بمئات الملايين من الدولارات، يتوزعها أهل النفوذ والسيطرة في الحكم، الرئاسات أساساً، والوزارات المذهبة (وزارة النفط، مثلاً، وزارة المالية).
ولقد كان الفساد ـ وهو القاعدة الذهبية للحكم في مختلف الدول العربية ـ من سمات عصر صدام حسين، وربما من حكم قبله، ولكنه تجاوز في المرحلة التي أعقبت الحكم باسم حزب البعث (والذي لم يكن للحزب منه إلا الشعار) «الحدود»... لا سيما مع نوري المالكي وحكومته، وتجاوز المعايير جميعاً، وصارت أرقام المال المنهوب فلكية، وبالمليارات... وقد استخدمت بيروت كمعبر، غالباً، ومستقر، أحياناً لبعض الثروة الوطنية العراقية المنهوبة.. وان ظل ما ورد إليها أقل بما لا يقاس مما ورد إلى عمان، وإلى بعض امارات الخليج كتوظيفات في مشاريع مجزية الأرباح. كذلك فإن بين النهابين مجموعة من مزدوجي الجنسية بين المسؤولين العراقيين ما يحصنهم في وجه المحاسبة.
وتستحق المرجعية الدينية في النجف الاشرف التقدير على دورها الحاسم في المطالبة بالكشف عن ابطال المهدور ومحاسبتهم، بينما الأكثرية الساحقة من العراقيين تعيش حياة بائسة في مختلف انحاء «أرض السواد»، التي كانت عبر التاريخ من أخصب الأراضي وأعظمها عطاء... لا سيما وان ادارة الحكم كانت في أيدي مسؤولين شيعة مما يدمغ طائفتهم (أي ملايين الملايين من العراقيين) بتهمة نهب الثروة الوطنية واحتكارها، في حين ان الأكثرية الساحقة منهم تعيش حياة بائسة، سواء في مدنهم وقراهم المهملة وخصوصاً في «مدينة الثورة»، والتي كانت ضاحية لبغداد ثم تعاظم اعداد سكانها الفقراء الذين لجأوا إليها بحثاً عن الرزق، هاربين من حياتهم البائسة في أرض السواد، فزادوا عن عشرة ملايين من البشر، رجالاً ونساء وأطفالاً والمزيد من الأطفال.
ذلك ان النهابين قلة محظوظة، ولكن تهمة النهب وسرقة المال العام قد لحقت بعموم الشيعة، في جملة ما اتهموا به من الهيمنة على الحكم ومصادر الرزق، في حين ان المنتفعين بالمال المنهوب قلة من السياسيين الذين احتكروا السلطة باسم الغبن التاريخي الذي كان لاحقا بالشيعة، واندفعوا ينهبون بلا خوف من الرقابة أو من الحساب خاصة.
يمكن القول ان معظم أهل الحكم في غالبية الدول العربية هم في دائرة الاشتباه بجني الثروات الهائلة عن طريق نهب المال العام، بهذه النسبة أو تلك... ينطبق ذلك على الدول النفطية (كحق مشروع للأسر الحاكمة) كما على الدول الفقيرة، ومنها لبنان الذي يكاد أي مواطن «يكرج» لك أسماء النهابين من الرؤساء والوزراء وأصحاب النفوذ، ومعظمهم محصن بالطائفية ثم بالشراكة التي تجمعه إلى اقرانه من أهل السلطة أو من مستغليها عن طريق رشوة القائمين بها.
بالمقابل، وحتى لا تكون الصورة سوداء بالكامل، يمكن الاستشهاد بحدث مهم تابعه العرب في مختلف أقطارهم على الشاشات ووسائط التواصل الاجتماعي، يوم الخميس الماضي، وهو افتتاح المجرى الجديد لقناة السويس مع توسيعاته التي ينتظر ان تدر دخلاً إضافياً محترما على الخزينة المصرية: فقد وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي نداء إلى المصريين بأن يساهموا في تمويل هذه العملية الواضح جدواها وتأثيرها على الدخل القومي في مصر... وكانت الاستجابة باهرة، فقد اندفع المصريون، فقراؤهم قبل أغنيائهم يدفعون من مدخراتهم، ما كفل تحقيق هذا الإنجاز الباهر الذي سيدر على مصر فائضا محترما من العملة الصعبة، من دون الاستعانة بالخارج. وللخارج، كما نعرف، شروط تستدرج الضغوط وتذهب بالمصلحة الوطنية.
إن أنظمة الفساد المحمي بالديكتاتورية هي التي دمرت معظم الدول العربية، وهي التي دفعت بالجماهير إلى الشارع تحاول اسقاطها فتواجه رصاص قواتها المسلحة، لتنقلب الانتفاضات إلى مواجهة بالسلاح بعدما وجدت «الدول» ذات المطامع والاغراض، مساحة واسعة للتدخل مما يهدد بإسقاط الدول ذاتها، لا الأنظمة فحسب.
ولعل تجربة مكافحة الفساد المهيمن على مراكز السلطة في العراق، والمتسبب في نهب ثروته الوطنية تكون جدية فتسنقذ «الدولة» التي يتهددها التقسيم بالفتنة بينما «داعش» يفتك بالدولة ويهدد وحدة الشعب مشكلاً الشريك المضارب لفساد السلطة.