طلال سلمان
يعيش أهل المشرق العربي تحت وطأة هموم مصيرية تتصل بمستقبلهم في بلادهم، وبالتحديد كياناتها السياسية: هل تصمد «دولهم» لما تتعرض له من تمزيق لخرائطها، بين «النظام» الذي ما زال قائماً ولكنه في حالة عجز عن حفظ «الدولة»، وبين المعارضات المختلفة التي تتباين مشروعاتها إلى حد التضاد، ويصل ببعضها الهوس أو الاغتراب عن الواقع إلى حد رفع شعار «الخلافة الإسلامية»، بينما المسلمون يقتتلون ويسقطون ضحايا صراعاتهم الدموية العبثية التي لا تنتهي؟
إن أربع دول عربية، على الأقل، مهددة في كياناتها السياسية، وهي اليمن والعراق وسوريا، في المشرق، وليبيا في المغرب العربي. في حين يعيش اللبنانيون قلقاً جدياً على «كيانهم» الأقوى من «دولته»، إذا ما شملت تداعيات الزلزال الذي يهز المنطقة وطنهم الصغير.
ومما يزيد من حدة الشعور بالخطر، افتقاد المرجعية العربية التي يمكنها أن تتصدى لمعالجة الأوضاع المأزومة التي تتهدد بعض الدول في كياناتها السياسية وبعضاً آخر في وحدة شعبها.
بتنا نسمع تعابير جديدة عن «مكونات» هذا الشعب أو ذاك. سقطت الهوية الوطنية ـ العربية، وسقط الدين الإسلامي جامع الأكثرية الساحقة في مختلف الأقطار المهددة في «دولها». صار «للمكون الشيعي» حقوق غير حقوق «المكون السني»، وارتفع صوت دعاة الفدرالية في العراق لتأمين حقوق السنة في وطنهم قبل أن «يصادرها الشيعة». ورحب المتطرفون الشيعة باستقلال «الأقاليم» فيكون لهم إقليمهم وللسنة إقليم ثان وللأكراد إقليم ثالث (إذا ما تنازلت قيادتهم عن جنوحها إلى الاستقلال عن الشركاء العرب الذين لا يعرفون معنى الدولة!).
أما سوريا، فمناطقها ممزقة بين السلطة المركزية في دمشق و «قوى الأمر الواقع» وهي تزيد عن خمسين منظمة وتنظيماً وفصيلاً وبضع جبهات تضم كل منها عدداً من «فصائل المعارضة»، وإن ظل «داعش» أقواها، اذ يكاد يسيطر مباشرة او بالنار على أكثر من ثلث مساحة سوريا. وصحيح أن معظم هذه المساحة صحراء (بادية الشام التي تمتد إلى العراق أيضاً)، ولكن هذا التنظيم الدموي يمسك بمسافة طويلة من الحدود السورية ـ التركية، التي منها ـ على الأرجح ـ قد دخل في استعراضه الشهير فاحتل الموصل بلا قتال، قبل خمسة عشر شهراً، تم تمدد في أنحاء الأنبار والرمادي وحتى ضواحي بغداد قبل صده عنها، وإن ظل يمطرها ـ وأنحاء عراقية أخرى ـ بسياراته المفخخة أو بفصائله المقاتلة لكي تدافع عن عمق «دولته» الغنية بالمال والسلاح والرجال الآتين من أربع رياح الأرض.
وأما في اليمن الذي كان سعيداً ذات يوم بعيد، فإن الاجتياح العسكري الذي تورطت فيه السعودية قد استحضر خطر تقسيمه مجدداً إلى دولتين جنوبية وشمالية، مع احتمال ابتداع كيان خاص لحضرموت لتكون المرفأ النفطي السعودي على المحيط الهندي. وقد أقدمت السعودية على حربها (الجوية) بعد إعداد وتخطيط وتدريب أفادت خلال التحضير من «جيوب» سياسية موالية لها في الجنوب أساسا كما في الشمال، بينها ـ للطرافة ـ بعض عتاة الشيوعيين القدامى إلى جانب «الإخوان المسلمين» فضلاً عن طابور من الطامحين والمتعيشين من الحروب.
ولقد ضمنت السعودية لحربها هذه تغطية عربية ملتبسة، إماراتية أساساً، مع مشاركة جوية مغربية كلفت السلاح الجوي الملكي طائرة حربية، ومشاركة أردنية مضمرة و «تفهم» مصري تمثل في تأمين البحر الأحمر وصولاً إلى مضيق باب المندب.
ولقد ضخمت السعودية الشبح الإيراني كحليف للحوثيين في الشمال اليمني، بهدف إدخال العنصر المذهبي في الصراع، للادِّعاء أنها بتدخلها إنما تحمي «السنة» (الشوافع) الذين لم يكن لهم مشكلة خاصة مع الحكم اليمني، بشهادة سبعمئة سنة أو يزيد من حكم «الزيود»، الذين يشكل الحوثيون بعض سادتهم إذ يعودون بأصولهم إلى النسب الشريف.
أما في لبنان حيث «النظام» أقوى من «الدولة» بما لا يقاس، فتعصف دوامة الفراغ بالطبقة السياسية فيه وتكشف عجزها الفاضح، من دون تدخل مباشر من الدول ذات التأثير، بالقيادة الأميركية، ومن دون حضور شريك عربي فاعل كانت تتولاه في «الزمن الجميل» مصر بشراكة ضمنية مع سوريا، ثم انتقل دور الشريك العربي إلى سوريا مع «حصة معلومة» للسعودية. أما الآن، فمع انشغال دمشق بهمومها، وعدم جهوزية مصر للدور الذي ينتظرها، فإن السعودية منفردة لا تستطيع النهوض بهذا الدور، خصوصاً وقد باتت إيران ذات تأثير لا يمكن إنكاره على مسار الأحداث في كل من العراق وسوريا، تحديداً... وهو دور قد تعاظم وتشرعن بعد الاتفاق النووي في فيينا والتسليم الأميركي به.
ليس النفوذ الإيراني في المشرق العربي طارئاً أو مستجداً. فعلاقة إيران الثورة الخمينية مع دمشق تعود إلى لحظة خلع الشاه وإعلان الجمهورية الإسلامية. فقد وجد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في هذه الثورة «نجدة» تعوضه إلى حد ما انفراط التحالف التاريخي مع مصر بعد تفرد السادات بالسعي إلى الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، في حين كان صدام حسين يبني «إمبراطوريته» في العراق متطلعاً إلى قيادة المنطقة جميعاً. وهذا ما قاده إلى شن الحرب على إيران الثورة مستفيداً من خوف السعودية وإمارات الخليج من هذا التغيير الإستراتيجي في طهران، والذي من شأنه أن يفتح أمامها أبواب دول المنطقة جميعاً.
وبينما كان صدام حسين يحقق نجاحاً عسكرياً في حربه على إيران، كانت حكومة الخميني توطد علاقتها بسوريا وبالمنظمات الإسلامية العاملة في إطار النضال الفلسطيني، وتدعم النواة المقاتلة ضد إسرائيل في جنوب لبنان، والتي ستغدو عبر الممارسة الفعالة والتضحيات الجسام والعمل الدؤوب تنظيماً وإعداداً ما نعرفه اليوم في «حزب الله» الذي يعتمد احدث أساليب التدريب لقوافل من المؤمنين بالجهاد من اجل تحرير الأرض اللبنانية المحتلة ـ آنذاك ـ وصولاً إلى تحرير القدس الشريف.
وعندما انفض عرب الخليج عن صدام حسين بعد انتصاره في الحرب على إيران، ارتكب «رجل العراق القوي» خطيئته القاتلة: قام بغزو الكويت في العام 1990، فاستفز العالم كله. وكانت الحرب الأولى بالقيادة الأميركية وبمشاركة عسكرية عربية أخرجته من الكويت، وأدت إلى احتلال «الجيوش الحليفة» بعض جنوب العراق، والتي مهدت لحرب أخرى ربيع 2003 وانتهت بإسقاط نظام صدام بكلفة عالية جداً: تدمير العراق.
وانفتح الباب أمام طهران «للثأر» من العراق. وهكذا تغلغلت في أنحائه مستفيدة من الفوضى العارمة التي ضربته نتيجة إسقاط دولته، وكذلك من نقمة شيعية متأصلة نتيجة استبعاد هذا المكون الأساسي لشعب العراق عن القرار فيه، وكذلك من علاقة خاصة لم تنقطع مع الأكراد الذين أذاقتهم الحكومات المتعاقبة في بغداد أصنافاً من الاضطهاد بلغت ذروتها مع الحملة العسكرية التي شنها صدام على معاقلهم في شمال العراق، وَتَوَّجَها بالمذبحة المعروفة في حلبجة.
على هذا، فالنفوذ الإيراني في المشرق العربي «قديم» وهو متغلغل في أنحاء كثيرة، لا سيما أن طهران قد أفادت من الإهمال العربي الرسمي لقضية فلسطين وإسقاط شعارات التحرير، فاندفعت نحو المنظمات الفلسطينية ترعاها وتمدها بالسلاح والذخيرة والدعم المباشر، وبالذات منها «حماس» و «الجهاد الإسلامي».
وإذا كانت طهران قد تجنبت «العمل المباشر» في دول الخليج، فذلك لأنها تعرف أن الجغرافيا تحكم، ثم إن لها جاليات ذات وزن وتأثير في مختلف هذه الدول، وبالذات في الإمارات فضلاً عن الكويت، كما أن لها مع قطر شراكة في الغاز، في حين أن علاقاتها مع سلطنة عُمان ظلت «مميزة» عبر التاريخ. وهكذا فإنّ المصالح تغني عن العسكر.
في أي حال فإيران اليوم هي غيرها قبل شهر أو يزيد قليلاً.
إن الاتفاق النووي يتضمن، من غير إعلان، نوعاً من الشراكة الإيرانية ـ الأميركية «في منطقة المشرق العربي»، ولم تكن «مصادفة» أن يتزامن تصدر الرئيس الأميركي باراك اوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني شاشات التلفزيون للإعلان عن هذا الاتفاق التاريخي الذي يمكن اعتبار التفاهم الأميركي ـ الإيراني عنوانه الأبرز ومضمونه الأوسع شمولاً من «النووي».
على هذا، فإن منطقة المشرق العربي مقبلة على جملة من التطورات والتغييرات، يقررها الغير، في غياب أنظمة الحكم فيها، المشغولة غالباً في الدفاع عن وجودها، بينما مصير دولها هو موضع البحث بين «أصحاب القرار».
إننا أمام نقطة تحول مفصلية في أوضاع دول المشرق وشعوبها في هذه اللحظة.
وعلينا الانتظار لبعض الوقت قبل انجلاء غبار المعارك في إعادة توزيع مواقع النفوذ في هذه المنطقة الخطيرة بإمكاناتها الهائلة ومشكلاتها التي يزيد التدخل الأجنبي من تعقيدها بما يخدم مصالحه، في غياب أهلها.