طلال سلمان
كشفت جولة وزير الخارجية الاميركية في منطقتنا العربية، لا سيما في محطتها الأولى بالقاهرة، كم تبالغ الإدارة الاميركية في اطمئنانها إلى النتائج السياسية للانتفاضات العربية وقدرتها على احتوائها.
لقد تبدى من خلال سلوك الوزير جون كيري وكأنه واثق أن السلطات التي قفزت إلى سدة الحكم بمصادفة قدرية وتحت لافتة الانتفاضات الشعبية، لن تجد «مرجعية» تعود إليها في تحديد مسار هيمنتها وتأمين نجاحها وتخطي مأزقها الاقتصادي إلا في واشنطن ومجال نفوذها الحيوي المفتوح، الذي قد يكون مدخله صندوق النقد الدولي، ولكنه يشمل في ما يشمل الصناديق الخليجية التي مفاتيحها في الأيدي الاميركية.
ثم إن الوزير الاميركي قد تصرف وكأنه «مرجعية الجميع»، يستوي في ذلك من يتولون مقاليد الحكم ومن هم في موقع المعارضة، فضلاً عن «الشارع» الذي جهر برفضه من في السلطة من دون أن يسلم بقيادة مطلقة لـ«جبهة الإنقاذ الوطني» لافتراضه أنها أعجز من أن تحمل مطالبه لأنها ليست «جذرية» بما يكفي، وليست موحدة بما يؤكد استقطابها للقوى الشابة التي ابتدعت الميدان وثبتت فيه كسلاح مؤهل لأن ينجز إسقاط الطغيان.
لقد بسّط الوزير كيري المسألة: الرئيس الإخواني فاز في الانتخابات فهو، إذن، التجسيد الحي للديموقراطية، ولا يعيبه أنه لم يحصل إلا على نسبة متواضعة من أصوات الناخبين، فذلك مبدأ ديموقراطي، من تصبّ له الأكثرية النسبية هو الفائز.. وهذا معمول به في مختلف أقطار الدنيا، وفي الولايات المتحدة الاميركية على وجه الخصوص... أما كونه ينتمي إلى «الإخوان المسلمين» فليس مصدر قلق، ليس فقط لأن «إخوان» الألفية الثالثة هم غير «إخوان» القرن الماضي بل لأن الولايات المتحدة الاميركية قد غيرت نظرتها إلى «الإسلاميين» واختارت أن ترعاهم وتشجع انخراطهم في اللعبة السياسية داخل أقطارهم، وصولاً إلى تسلمهم سدة السلطة فيها ليواجهوا بإسلامهم المعتدل أولئك المتطرفين الذين اختاروا طريق الإرهاب الدموي على غرار «القاعدة» ومشتقاتها.
أما المعارضة ممثلة برموزها فأمرها هين: فبعض ابرز هؤلاء مشبع بإيمانه بالديموقراطية الاميركية، وبعض آخر ينظر إلى الولايات المتحدة بوصفها المرجعية الكونية ومصدر القرار الأخير في شؤون الدول جميعاً، في الشرق والغرب، من رضيت عنه وصل ومن تحفظت عليه لم يعرف طريقه إلى السلطة مهما بلغت «شعبيته « في الشارع.
يبقى أولئك الذين يفترضون أنهم بقوة التأييد الشعبي يستطيعون التحكم باللعبة السياسية فستثبت لهم الأيام أنهم واهمون..
ثم إن في واشنطن خبراء في اصطناع الزعامات الشعبية، وفيها من بلغت مهارته حد «بيع» الناس قيادات مستولدة حديثاً ولكنها تتمتع بجاذبية وبخطاب سياسي مؤثر وقادر على استقطاب الجماهير بالشعارات البراقة وبالإحصائيات التي تؤكد خبراته وموقفه بأعماق المجتمع... وليس ما يمنع من أن تحفل طريقه إلى الزعامة بقدر من الهجوم على الإمبريالية وقدر من الاعتراض على سياسة إسرائيل التوسعية.
لم يلتفت جون كيري إلى ما حدث في «الشارع»، داخل القاهرة أو في المدن المصرية الأخرى كبور سعيد والمنصورة وغيرها التي بلغ الغضب فيها حد العصيان المدني، وأحياناً حد التصادم مع «الإخوان» المسلمين الذين تصرفوا وكأنهم «السلطة»... ولكنه بالتأكيد قد انتبه إلى أن طريقه إلى المطار، في الخروج من القاهرة، قد اختلفت عن طريق دخوله.. ولا بد انه سأل عن الأسباب التي فرضت هذا التعديل في خط السير!.
المهم أن الوزير الاميركي قد تحقق، وبالملموس، وعبر زيارته القصيرة، أن الحكم الإخواني في مصر ليس وطيد الأركان، وأن الشعب في مصر لم يسلم قياده للتنظيمات الإسلامية، وأن مصر ما تزال تعيش حالة اضطراب شديد، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، لا تنفع في علاجها النصائح ولا الوعود بالقروض ولا بالتشديد على ضرورة الحوار...
على أن الأخطر أن «المصريين» عموماً لم يستقبلوا الوزير الاميركي بوصفه المرجعية السياسية وصاحب القرار في شأن حاضرهم ومستقبلهم... فلا المعارضة سارعت إلى لقائه للتظلم أمامه ومطالبته بالتدخل من اجل إشراكها في السلطة بوصفها «قوى صديقة»، ولا الشارع بدا مرحباً أو حتى: محايداً»، وإنما اعتبر انه قد جاء ليدعم الحكم الذي تسببت قراراته المرتجلة، أو الموصى بها، في إفقاده الكثير من هيبته ومن مشروعية تمثيله للانتفاضة، أي للإرادة الشعبية التي تطمح لصياغة «عهد ما بعد الطغيان»، وترفض أن تسلم بحكم «الإخوان» وكأنه قدر لا مفر منه.
لم ينجح الوزير الاميركي في إظهار بلاده مرجعية لمصر في طورها الثوري الجديد، بل لعله أكد من حيث لم يقصد أن الإدارة الاميركية ما زالت تتصرف مع مصر وكأنها لم تغادر موقع تصنيفها السابق، وأن ما حدث فيها يمكن استيعابه ببعض اللقاءات مع معارضين للنظام الجديد ولكنهم أصدقاء دائمون لواشنطن، خصوصاً أنهم لا يملكون خياراً آخر... بغض النظر عن موقف «الشباب المتحمس» ومدى تأثيرهم على القرار في العهد الإخواني.
ولقد أكد هؤلاء الشباب حضورهم القوي، ليس فقط في رفض حكم «الإخوان» بل كذلك في مواجهة «جبهة الإنقاذ» التي لم تنجح في إقناعهم بأنها قيادة المستقبل، خصوصاً أنها لم تؤكد - حتى الساعة - وحدتها ككيان سياسي مؤهل لمواجهة ستكون قاسية حتماً مع حكم «الإخوان» الذي يتمتع بحماية دولية وعربية، فضلاً عن انه يملك امكانات مادية وفيرة في الداخل والخارج، ولا سيما في الخارج.
وليس من باب سوء الظن الافتراض أن الوزير الاميركي قد يسعى، بعد القاهرة، وخلال لقاءاته مع المسؤولين في السعودية وسائر دول الخليج إلى مطالبتهم بالمبادرة إلى إنقاذ الحكم الإخواني بالمساعدات والقروض، مما يساعد على تثبيته، بما لهذا التثبيت من أهمية في ضمان امن هذه الدول في مواجهة «التهديد الإيراني» و«الخطر الشيعي» الذي يسعى لتبديل هوية المنطقة.
فلقد جرت العادة أن تقدم الإدارة الاميركية «مبلغاً رمزياً» كمساعدة، وكإيعاز معلن «للأصدقاء الأغنياء» بأن يهبوا لإعانة النظام الجديد لتثبيت مصر في موقعها الأساسي والحاكم في سياسات المنطقة عموماً، وفي أمنها على وجه التحديد... مع التذكير دائماً أن في ذلك حماية لأهل النفط وأساساً حماية لتطبيع العلاقة مع إسرائيل التي سقطت من أدبيات «الإخوان» من قبل وصولهم إلى السلطة، ثم اكتسبت صفة «الصديق العزيز» كما ورد في رسالة الرئيس محمد مرسي إلى رئيس الكيان الإسرائيلي شيمون بيريز.
*********
لقد جاءت زيارة الوزير الأميركي لتكشف ضعف الحكم في مصر، وغربته عن أن يكون تجسيداً للانتفاضة التي خلعت سلفه، علماً أن هذا الضعف قد تبدى في قراراته المتناقضة، وفي تعهداته التي كثيراً ما تنقضها مرجعيته الحزبية.
وواضح أن هذا الحكم يبحث عن أي عون، ولو من «مصادر غير صديقة»... وهذا ما يؤكده إيفاد رئيس حكومته إلى بغداد، في محاولة لأن يكسر «وحدانية توجهه» من جهة، وسعيه إلى أية نجدة عاجلة، مستفيداً من حاجة الحكم في العراق، الذي يعاني بدوره مصاعب جمة، إلى فتح الأبواب والنوافذ ليكسر حدة الحصار الخليجي (والغربي) عليه بتهمة انه «إيراني الهوى».
والمعادلة صعبة: بين طلب التغطية السياسية من المسؤولين الاميركيين والمساعدة الاقتصادية من الخليجيين، وفي الوقت ذاته استعادة «العلاقة الحميمة» مع أهل الحكم في بغداد التي يناصبها الجميع العداء، فإن سلموا بضرورة العلاقة معها جعلوها في حدها الأدنى، كما تبدى واضحاً خلال القمة العربية التي انعقدت قبل شهور في العاصمة العراقية.
.. تماماً كما هي المعادلة صعبة بين أن ينفرد «الإخوان» بالحكم في مصر، وفي محاولة التمكين لهيمنتهم بالدستور المرتجل بالحوار مع الذات، واستبعاد القوى الوازنة شعبياً بحيث تكاد تكون الأكثرية، ثم الادّعاء بأنهم يقيمون جمهورية ما بعد الطغيان، وجمهورية حكم الشعب بالشعب.
وفي كل الحالات فإن طريق مصر إلى الاستقرار يبدو طويلاً جداً وشاقاً جداً.. حتى بعد زيارة جون كيري، بل لا سيما بعدها.