طلال سلمان
فجأة، ومن دون إنذار مسبق، سقطت «الأمة العربية» من اللغة السياسية الراهنة وعادت إلى موقع ما بين «الأسطورة» و «الحلم».
فجأة، ومن دون مقدمات أو تبريرات مقنعة، صار استخدام تعبير «الوطن العربي» ضرباً من المغامرة أو هرباً من الواقع إلى التمني.
فجأة، اختفى «العرب» عن خريطة الدنيا وتحولوا إلى شعوب شتى فيها أكثريات طائفية أو مذهبية وأقليات دينية أو عرقية، صاروا رعايا بلا هوية جامعة، تنتظر كل رعية منهم حامياً خارجياً يؤمنها من مخاطر انتمائها الوطني والقومي الذي بات يتهددها في وجودها.
سقطت الوطنية والقومية تحت جنازير الدبابات المحلية أو بقذائف الطيران الأجنبي الوافد ـ باستدعاء صريح - لنجدة الأنظمة التي فقدت غطاءها الفكري - السياسي الذي كان يبرر شكلاً، استيلاءها على السلطة من خارج الإرادة الشعبية أو عبر تزويرها بالأمر.
صارت «العروبة» تهمة تكاد توازي الخروج من الوطن، الذي بات الآن بلا هوية جامعة، وعليه... بل لقد تحولت إلى عنوان للتخلف والفرقة والتنافر إلى حد إشاعة مناخ الحرب الأهلية.
وُضع الانتماء الطائفي والمذهبي في مواجهة الانتماء القومي بل والوطني (المحلي)..
استعيدت هويات ما قبل التاريخ: الفرعونية، الفينيقية، السريانية، الأشورية، الكرد مع التفريق بينهم على قاعدة مذهبية..
صارت كل دولة عربية أشتاتاً من الأعراق والأديان اللاغية للهوية الوطنية، فضلاً عن «الرابط القومي» أي العروبة.
كأنما الأميركيون مثلاً أو البريطانيون أو الفرنسيون أو الإيرانيون أو الأتراك يتحدرون من عرق واحد ويشكلون كتلة صماء لا تمايز بين أفرادها في الدين أو العرق أو اللون أو هويات ما قبل الدولة الموحدة.
تجاوز تحقير الانتماء القومي من توصيف العرب بأنهم «ظاهرة صوتية» إلى الادعاء بأن ما يجمع بينهم خليط من الخرافات والتمنيات والطموح السياسي، لا شيء يربط بين أشتاتهم: لا الهوية ولا الدين، لا الأرض ولا الواقع السياسي ولا هم الغد والمصير. لا الماضي ولا الحاضر خاصة، فكيف بالمستقبل إذا كان صراع الهويات يلغي وحدتهم وأهداف نضالهم التاريخي وحلمهم الدائم في دولة واحدة، لا فرق بين أن تكون فدرالية أو كونفدرالية.
في سياق هذه الحرب العربية ـ الدولية على العروبة، لجأت بعض الأنظمة العربية التي ترفع الشعار الإسلامي إلى مقاتلة العروبة باعتبارها «رجساً من عمل الشيطان» وخيانة للدين الحنيف، وكادت تُخرج دعاتها من الإسلام... ثمَ إنها اندفعت في طلب الحماية من «الخارج» غير المسلم و «تحالفت» مع دوله بالقيادة الأميركية ضد أهلها العرب وضد العروبة كهوية جامعة.
هكذا فُرض على دعاة العروبة أن يخوضوا معارك عدة في آن معاً: ضد «الانعزاليين» والكيانيين من المتنكرين لعروبتهم في الداخل والمتعاونين مع الأجنبي لمحاربتها باعتبارها خطراً على «كياناتهم» و «إقليميتهم» التي لم تجد غضاضة في التحالف مع أميركا (البروتستانتنية)، أو في مهادنة العدو الإسرائيلي متذرعة بأن «اليهود أهل الكتاب».. كأنما المعركة مع الاحتلال الإسرائيلي لاستنقاذ فلسطين كلها إن أمكن، هي «حرب دينية». ومفهوم أن طمس الهوية السياسية للمعركة ضد إسرائيل، ومحاولة تغليب العوامل الدينية على طبيعة المواجهة بين محتل غاصب للأرض، مشرد أهلها، وهي مواجهة سياسية أولاً وأخيراً، يرتبط بها تأكيد حق الشعب الفلسطيني في أرضه وتحرير الإرادة سعياً إلى تحقيق الغد الأفضل فوق هذه الأرض، بهويتها العربية، وبطموح أهلها إلى الحرية والعدالة والتقدم.
وفي سياق هذه الحرب على العروبة، تمت تغذية الكيانية أو الإقليمية أو حتى الجهوية، فصار القول بالوحدة العربية أو بالاتحاد أو حتى بالتكامل الاقتصادي العربي، بمثابة «الخيانة». ولقد شهدت عواصم عربية عدة محكمات لدعاة الوحدة العربية بوصفهم «خوارج» معادين للسيادة والاستقلال ومهددين للوحدة الوطنية في «قطرهم»، الذي أسبغت على كيانه قداسة مزيفة، عززت قوات حماية الكيان بالقوات المسلحة وبات من يتجاوزها في حكم الخائن.
لا يمكن في هذا السياق إغفال الأثر المدمر لغياب مصر عن دورها القيادي، وهو استحقاق تاريخي وإنساني، فضلاً عن كونه طموحاً مشروعاً لأكبر الدول العربية وأغناها ثقافة وجدارة. وكان من نتائج هذا الغياب أن اصطرعت دول عربية عدة على الدور القيادي للأمة، دمشق بدورها الريادي في بعث الفكر القومي عبر حزب جامع ـ أقله بشعاراته ـ بين الوحدة العربية والحرية والاشتراكية، ثمّ بغداد التي استنسخت من «البعث» حزباً يحمل الشعارات ذاتها، ولكنه يؤكد جدارة العراق بالقيادة بديلاً من دمشق.
في حرب البعثين وجدت الأنظمة الملكية أو شبه الملكية فرصة للتنفس والمناورة.
ولقد استنزفت الحرب على إيران، العراق، ومعه دول الخليج، عسكرياً واقتصادياً.
وكان أن حاول صدام حسين الانتقام من الخليجيين فشنّ غزوة الكويت، التي احتلها بلا قتال تقريباً، لأن حملته العسكرية جاءت من خارج التوقع. وهكذا وفرَ للأميركيين الفرصة المثلى لتدمير أقوى جيش عربي (العراق) ولاستنزاف أقطار الخليج مادياً، ولتعميق الانقسام بين الدول العربية، خصوصاً وقد شارك بعضها (مصر وسوريا والمغرب) في الحرب على العراق تحت الراية الأميركية.
تمّ تدمير العراق، وكان بديهياً أن تتقدم القوات الأميركية فتستولي على بغداد.
قبل ذلك بسنوات قليلة، كانت قد سقطت تجربة «حركة القوميين العرب» في حكم اليمن الجنوبي. إذ سرعان ما بدلت السلطة المناضلين الذين لم يجدوا من يدعمهم ويحميهم إلا الاتحاد السوفياتي، فغادروا القومية إلى الشيوعية لينتهوا بعد سقوط الشيوعية في موسكو إلى حكم لكيان هزيل القدرات اقتصادياً، ما أجبرهم على قبول الوحدة مع الشمال (صنعاء) بعد حربين منهكتين عززتا الانقسام بين اليمنيين.
يمكن القول إن خروج مصر من موقعها الطبيعي ودورها الذي لا بديل منها فيه، ابتداء من معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي، قد سرّع عملية التباعد حتى الانفصال، بل وحتى العداء، وربما الحرب بين العديد من الدول العربية.
الأخطر أن هذا الخروج قد أفقد العرب مركز قيادتهم ومرجعيتهم السياسية والفكرية والثقافية. فتصاغر «الكبير» أدى إلى تضخم «الصغار» الذين أغرتهم ثرواتهم بالتقدم نحو موقع القيادة، بشيء من الخوف والتردد بداية. فلما تفجرت سوريا بالحرب فيها وعليها، تقدموا غير هيابين، وباتوا يشعرون بالقدرة والأهلية لأن يقرروا في شؤون الدول ـ القادة التي طالما كانوا يتطلعون إليها: ففي غياب مصر، ثمّ العراق، وأخيراً سوريا (من دون أن ننسى ليبيا القذافي التي دخلت مع اغتياله الوحشي في حرب أهلية لا تنتهي) ومع الغياب الدائم وغير المفهوم للجزائر، خلا الجو لدول النفط العربية. هكذا تصدرت قطر المسيرة المضادة، قبل أن تتقارب دول الخليج تحت القيادة السعودية، وأن تحتفظ لنفسها بحق الامرة: فتسعّر الحرب على سوريا ثمّ تطلق أسطولها الجوي لتدمير اليمن، وتحاصر مصر باحتياجها إلى المال للنهوض من كبوتها الاقتصادية، وتعطل الحياة السياسية في لبنان، وتستدرج السودان إلى بيت الطاعة، وتموّل الاقتتال في ليبيا، وتباشر فتح النوافذ ـ ولو جانبيا ـ مع العدو الإسرائيلي.
إنها لوحة سوداء للواقع العربي. وهي مرشحة لأن تزداد سواداً، عبر تمزق الكيانات القائمة، وتفاقم مخاطر الحروب الأهلية.
.. في انتظار أن ينتبه العرب، بطلائعهم، إلى واقعهم المأساوي الذي يكاد يذهب بغدهم بعد حاضرهم.
والبداية دائماً في مصر وانطلاقاً منها.