على امتداد نصف قرن أو يزيد سرى صوت فوز فيير وجداننا مسرى الدم في عروقنا، وأعاد صياغة مشاعرنا وطريقة تعبيرنا عن حب الحياة والإيمان بأننا نستحق نعمتها والتمتع بفيض عطاءاتها التي لا تنضب.
لقد أفرحتنا حدّ السكر بصوتها الساحر، يأخذك إلى البكاء، أو يفرش الورد في طريقك إلى الحلم، ويغريك بحب الحياة وأبناء الحياة.
هي صباحنا - البشرى، وهي خزان أحلامنا في المساء، هي منبع الشوق، حاضنة العشق، زغرودة الفرح، وهي هي الداعية إلى مقاومة الظلم والخطأ التاريخي لا تندب فلسطين وكأنها بعض الماضي، بل تغنّيها بنغم التحريض على مقاومة الاحتلال، ورفض العنصرية حمايةً لكرامة الإنسان، وشرف الأرض والدفاع عن الإيمان الذي يصوغ الوجدان.
لقد اقتحمتنا كنسمة ربيعيّة، وسكنت وجداننا كضمير يحاسبنا على الصح والخطأ، تسمعها فإذا أنت تحاسب نفسك: هل أعطيت أرضك كما أعطتك وتعطيك؟! هل حميت اهلك، مدنك، مقدساتك، إنسانيتك بقدر ما تستحق؟!
تصغي اليها فيستفيق المهجور من عواطفك، وينتعش إيمانك بالحب، وتفترش سماءك وجوه من أحببت: أرضك، أهلك، تاريخك، ومن غرس الورد لحبك فاستولد ربيعاً جديداً من قلب ثلج الهجر وقسوة البعاد.
تغنّي آهاتك، فرحاً وحزناً، وجداً وحماسة، إيماناً بالأرض، بالناس، بذاتك، تحيلك إلى قلب ينبض بعشق تاريخك، تؤكِّد فيك ثقتك بنفسك وجدارتك بأن تُحب وتحب.
هنا شذرات من ذكرى لقاءات ما تزال تسكن الوجدان، نستعيدها لنقول لهذه التي ضمخت صباحاتنا بالعطر إننا أحببناها أمس ونحبها اليوم وسنحبها غداً... وإنها كانت دائماً في منزلة بين المنزلتين: القلب والضمير... ولطالما أوجعتهما لتكتمل إنسانيتنا.
ـ 2 ـ
أسعدني حظي بأن سهرت في ضيافة السيدة فيروز أكثر من ليلة في مناسبات متباعدة ضمن مجموعة مختارة بدقة من الأصدقاء... بل الحقيقة أننا سهرنا مرات مع الصوت الذي يتدرّج رقراقاً بين الشجن والفرح، وقدّر لنا أن نعرف بعض وجوه هذه المبدعة متعدّدة الموهبة وأخطر مواهبها الظرف، قبل الصوت الشجي وبعده.
هي ليست ملكة.. فليس بالضرورة أن تكون الملكة غنية بالمواهب، متعدّدة الكفاءات، بهية الحضور على خفر، ناقدة لاذعة، لماحة، ثم ذلك النهر المتدفق ظرفاً وتورية، دعابة وسخرية، نقداً وصراحة قد تتبدّى قاسية لكنّك إن دقّقت فيها اكتشفت كم تتضمن من التورية والدهاء المغلف بالمداعبة.
كان الصوت الساحر يسري بنا بينما نستمع إلى صوت الناقدة اللماحة وهي «تذبح» برقتها كباراً في أذهان سامعيها، مستدرجة الكل إلى الضحك منه. إنّها أحد مبدعي فن الكاريكاتور. وأظنّ أنّ ضحاياها كانوا سيتفجرون في قهقهة عريضة لو أنّهم يسمعونها وهي تشرح كفاءاتهم ومواهبهم وتكاد تقلّدهم في طريقتهم في الكلام أو في التصرف.
فيروز المتحدّثة مبدعة في التوصيف والتشريح. تلتقط من كلّ من عرفتهم العلامات الفارقة: اللهجة، طريقة التعبير، التدفّق في الكلام أو الاستغناء عن الكلمات بالإشارات بيديها أو بعينيها أو برأسها أو بذلك جميعاً.
على أن ذلك كلّه لا يخفي فيروز الأخرى الكامنة في فيروز الشخصية العامة، التي عليها أن تبدو غالباً في الصورة النمطية التي عرفها الجمهور. وهي فيروز التي تعيش حزناً عميقاً يطل أحياناً في بعض أغانيها الأقرب إلى ذاتها.
ـ 3 ـ
أحياناً تشعر انك أمام شخصيتين لفيروز: الأولى هي النجمة في فضائها العالي التي تسعى إليها بإحساسك وتذوقك للكلمة واللحن وذلك المزج العبقري بين المبنى والمعنى، أما فيروز الأخرى فتعيش همومها بل أحزانها خارج النجوميّة، بل وخارج الغناء بتفرعاته وتلاوينه اللحنية جميعاً.
فإذا ما انطلقت فيروز على سجيّتها اكتشفت فيها تلك الشخصية الأخرى، المغايرة تماماً لما عرفته منها وعنها. إنّها تلتقط المختلف في الملامح، في اللهجة، في التصرف، في العادات. إنها جرّاح خطير يلتقط مبضعه ما لا تراه ولا يراه الشخص المعني من خروج عن القاعدة في طريقة الكلام أو في الضحك أو في تناول الطعام، أو في إلقاء تحية الوصول فضلاً عن كيفية الخروج.
ليست موهبتها في صوتها متعدّد القدرات، فحسب، ولا في ذكائها الملفت، ولا في قدرتها على إعادة صياغة اللحن بصوتها المبدع فتحملك على جناح النشوة إلى أعلى عليين، إنما في تلك القدرة الخارقة على إعادة صياغة مشاعرك، فإذا أنت تكاد تزغرد فرحاً في لحظة، وفي لحظة أخرى تشعر بعينيك تسحان دموعاً صامتة لا تنتبه إليها إلا عند خدك أو عنقك.
الطرب ذروة من ذرى الغناء، يتجاوز فيه الحزن والفرح ويمتزجان فإذا أنت تبكي غبطة أو تنشج بكاء، وقد سحبك الصوت الشجي إلى عالم ساحر يهدهد إنسانيتك فيطلق سراحها من ضوابط «الأصول» اجتماعاً، وإذا أنت تحلّق في سماء من النشوة تخاف أن تهبط منها، إذا ما صمت الصوت الملائكي الذي رفعك إليها.
فأما فيروز، خارج «أدوارها» الذي أبدع في تفصيلها الفنان متعدِّد الموهبة عاصي الرحباني، والتي «خرّب» فيها وأعاد صياغة بعضها زياد الرحباني، فذات حضور متميّز: إنها ناقدة متمكنة ببديهة سريعة، تلتقط النافر من الصفات في وجوه من تلقى، وتلقي بصوت ضحيتها «لوازمه» التي التقطتها من خلال روح الكاريكاتور التي تتمتع لها.
ـ 4 ـ
لن أدخل في توصيف الصوت الغني بطبقاته والذي أحسه عاصي الرحباني وفهم أهواءه وتعاريجه وطوع ألحانه لكي تكون إطاراً من النغم يبلور دلالات الكلمات ويوصلها كاملة النشوة إلى المتلقي.
ولفيروز تقاليدها التي لا تخرج عنها في استضافة من تحب أن تلتقيه من الناس، وهم على أي حال قلة... فقد ذهبت أيام فوار انطلياس التي كانت موائده تجمع نفراً من الشعراء والفنانين، تمثيلاً ورقصاً، إخراجاً ورسماً ونحتاً.
ذهب الأغلى من الناس، ذهب الأزهى من الأيام. ضاعت عواصم الطرب والتذوّق والنقد. دمشق وبغداد والقاهرة وصارت القدس خارج الأحلام... ضرب الزلزال الجميع فساد الحزن الأبكم الذي يعجز الصوت مهما رقّ، ومهما هدهده الشجن، عن التعبير عنه. رحل الأحبة بعنوان عاصي، المعلم، المدرّب، مكتشف قدرات الصوت فائق الحساسية والقدرة على التعبير فرحاً وحزناً، طرباً حتى الرقص، نشوة حتى الدبكة، وحزناً مراً لا تكفي الدموع وآهات اللوعة في التعبير عنه.
ليست فيروز أرزة. إنها إنسان رقيق حتى ليكاد يذوب في صوتها، ولقد ذبنا في صوت فيروز الذي أفرحنا كثيراً وأبكانا أكثر، لأن أيام الشقاء لا سيما في سنوات الفقد كانت ثقيلة الوطأة تنهك الجبال فكيف بهذه الإنسانة رقيقة الشعور، الشفافة في عواطفها حباً ونقداً، عتاباً ومسامحة، قسوة في مواجهة الخيانة... وكلّ ذلك لا يخفي الأحزان المعتقة التي ولدت معها وعاشت فيها ومعها فاستولدت منها هذه المبدعة ذات الحساسيّة الفائقة في اكتشاف أغوار النفس والتعبير عن الإنسان في حالاته جميعاً، الفرح والحزن، الحماسة والصرامة وحب الحياة حتى الرمق الأخير.
لكِ، سيدة عصرنا، ما يحمل لكِ الناس في قلوبهم من حب يرفعك إلى مرتبة سامية لم تعرفها إلّا القلّة ممّن صنعوا لنا فرحاً وحباً للحياة يمكننا أن نكمل الرحلة، وأن نحاول حماية ما تبقّى، تاركين لأبنائنا أن يستعيدوا ما ضيعناه من أرضنا وإنسانيتنا وحب الفرح صائغ الحياة ـ الحلم.