تزدحم الأسئلة في أفق الاتفاق النووي بين إيران والدول (5+1)، وكثير منها عربية، وبينها ما يتصل بالمصالح لكن أخطرها يتصل بالمصير: من باع ومن اشترى، وأين العرب في هذه الصفقة ذات الأبعاد الكونية؟ أين العراق؟ وأين سوريا بالتحديد؟ يتصل بذلك السؤال عن لبنان. ثم: أين اليمن؟ وأين الخليج العربي الذي لن يكون لاتحاد دوله موقف موحد، برغم الضغوط السعودية؟
وقبل ذلك وبعده: أين السعودية؟ هل ستكتفي بأن يكون نصيبها اليمن، ولهذا مدت الحرب فيها بل ووسعت جبهاتها وعنفت ضرباتها في أعقاب التوقيع على اتفاق فيينا؟ أم أنها تريد تحديد حصتها في العراق والأهم في سوريا خصوصاً لحماية نفوذها في لبنان الذي لكل فيه نصيب وإن ظلت الأنصبة خاضعة لتوازن القوى في زمن التعديل بالحذف أو بالإضافة مع تبدل الأحوال.
وبرغم تزايد التكهنات حول مصير دول المشرق العربي، واحتمال التعديل في الخرائط، برغم صعوبته، أو التبديل في الأنظمة وأشخاص الحكام، وهذا أسهل نسبياً، إلا أن تحرك دول أخرى في الإقليم أبرزها تركيا ومن بعدها إسرائيل، يزيد في تعقيد الحسابات ويفتح باب الاحتمالات فتتجاوز التوقع.
ذلك أن إيران الثورة الإسلامية قد مدت نفوذها، خلال الثلاثين عاماً الماضية، إلى الدول المحيطة بها، عربية وإسلامية، فوصلت إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا ولبنان بعد تأمينها العراق ولامست حدود الاتحاد الروسي مباشرة أو عبر بعض جمهورياته الإسلامية، كل هذا فضلاً عن وجودها المادي المحسوس في إمارات الخليج جميعاً، وان ظل المركز سلطنة عُمان معززة بدبي باحتسابها مرفأ إيران، خصوصاً وقد تعززت بالقدرات المفتوحة بمدينة جبل علي.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية قلقة أو مقلقة في معظم بلدان الجوار الإيراني، لا سيما العربية منها، يصبح منطقياً الافتراض أن محادثات الغرف المغلقة في فيينا، ثم النتائج المعلنة عبر الظهور المتزامن لكل من الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني على الشاشة في واشنطن وطهران معاً، قد تجاوزت الاتفاق النووي إلى تقاطعات المصالح في دول المنطقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية.
واضح أن تفاهماً قد تم الوصول إليه في ما يعني العراق، من قبل الاتفاق النووي ثم تعزز بعده... وهو تفاهم يتجاوز التعاون العسكري إلى مباشرة البحث في ركائز ثابتة لتقاسم النفوذ «عبر تشطير العراق مذهبياً وعنصرياً». فإذا كان «الشيعة» من ضمن الحصة الإيرانية افتراضياً، فإن «السنّة» من ضمن الحصة الأميركية، في حين يتجاور الخصمان اللذان يتقدمان إلى نوع من «المساكنة»، حتى لا نقول التحالف، في كردستان العراق.
أما سوريا التي كانت «أرض حرب» بين النفوذ الأميركي معززاً أو مجسداً بالسعودية، وبين إيران التي تجذر نفوذها في عاصمة الأمويين، فيبدو أن وساطة روسية قد نجحت مؤخراً، في أعقاب زيارة قام بها ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو، في «فتح خط» بين العاصمتين العربيتين المتخاصمتين إلى حد الاشتباك المسلح ولو بالواسطة أو عبر التنظيمات التي تقاتل ضد الجيش السوري بالسلاح والتمويل والتجهيز السعودي (معززاً بالقطري والتركي).
في لبنان الذي تبدلت فيه مواقع النفوذ بعد الانسحاب السوري منه ثم بعد تفجر الأوضاع داخل سوريا، تقدمت السعودية في محاولة لاحتلال الموقع الأعظم تأثيراً، لكنها اصطدمت بطبيعة نظامها الذي يفضل «شراء الجاهز» بدلاً من التعب في تأسيس علاقات بنفس طويل وعلى مرتكزات صلبة وليس عابرة... وثبت بالدليل الحسي أن سوريا المشغولة بذاتها مؤثرة في لبنان ولو سلباً، بمعنى أن لها قوى حليفة تستحضر لها دوراً ما ولو تمثل بحق «الفيتو».
بالمقابل، يمكن اعتبار القفزة السعودية المباغتة إلى اليمن بالحرب بذريعة حماية «الشرعية» التي يختلف اليمنيون حول مرتكزاتها السياسية، بمثابة تعويض استباقي، أو توكيد «لحقها» في تأمين «بوابتها الخلفية»، لموازنة النفوذ الإيراني في المدى العربي.. خصوصاً أن السيطرة على اليمن تؤمن لها مرفأ عدن ووجوداً ما في باب المندب، وتحقق طموحها إلى التمدد في اتجاه حضرموت التي طالما تطلعت إليها كمعبر إلى المحيط الهندي.
أين تركيا من هذا كله؟!
لعل إقدام تركيا على إطلاق حملتها العسكرية قبل أيام ضد «المتمردين الأكراد» بذريعة تفجير تم في قلب قرية تركية تقع على الحدود السورية، يمثل الخطوة الأولى ـ على الأرض السورية ـ التي تعلن فيها حكومة أردوغان أنها طرف معني بما سوف يتقرر في شأن العراق وأساساً سوريا، خصوصاً مع اضطراب الأوضاع فيهما وعجز الدولة المركزية في دمشق عن حسم الصراع المسلح ضد معارضاتها التي تجاوز عدد تشكيلاتها الخمسين، بحيث بات لكل دولة قادرة نصيب فيها، بالمال أساساً ومن ثم بالسلاح، أما الرجال فأمرهم هين.
إن الأوضاع السياسة قلقة في مجمل دول المشرق العربي، وهي «قيد النظر»، وربما كان الاتفاق النووي هو المدخل لإعادة تقاسم النفوذ في هذه الأقطار في ضوء الأمر الواقع، خصوصاً وقد تحركت إسرائيل فأعادت ترسيم بعض «حدودها» مع سوريا بما يناسب «أمنها»، ثم انها طورت علاقاتها (العسكرية) مع الأردن بصورة علنية، فباعت هذه المملكة التي استولدها المشروع الإسرائيلي من قبل إقامته على أرض فلسطين، عدداً من الحوامات الحربية، توطيداً للأمن الإسرائيلي والدخول في ترتيبات المستقبل التي تُعد للمنطقة.
وفيما تتبدى الدول العربية في موقع الغنيمة، يتبارى أهل النفوذ قديمه والمستحدث في السباق إلى تقاسمها، تنصرف الدول الغربية إلى التنافس على الكنز المقفل في إيران، بتقديم العروض المغرية التي تشمل مختلف جوانب الحياة بأسباب التقدم التي كانت ممنوعة على إيران تحت الحصار، وآن أوان استثمارها. وهكذا قفزت ألمانيا، التي يشدها إلى إيران شيء من العرق إضافة إلى المصالح، لتكون الأولى والأعظم استعداداً لتقديم ما حُرمت منه بلاد فارس طوال سنوات الحصار، وآن الأوان لكي تحصل عليه فيؤكد جدارتها بمرتبة الدولة الأقوى في الإقليم، مع تحاشي استفزاز تركيا، وتغليب صيغة التوازن «على التصادم» في إعادة رسم خريطة تقاسم النفوذ في المشرق العربي الذي يبدو معطل القرار، يكاد يستسلم لقدره كغنيمة للأقوياء.
ومؤكد أن غياب مصر وانشغالها بأوضاعها الداخلية، اقتصادياً بالأساس ثم أمنياً مع اندفاع العصابات الإرهابية المعززة بالشعار الإسلامي لمشاغلة النظام الجديد ومنعه من تركيز اهتمامه بموجبات النهوض، يعطي مساحة أوسع للدول الإقليمية الكبرى (إيران وتركيا أساساً) للتدخل في شؤون المشرق العربي وتقاسمه كمناطق نفوذ بمساحته الواسعة بدءاً من باب المندب عند «بحر الظلمات» أو المحيط الأطلسي وصولاً إلى بيروت على البحر الأبيض المتوسط.
على أن مشروع التقاسم هذا يفترض التصدي المشترك لأشتات التنظيمات المسلحة، وأخطرها «داعش» المعزز مع السلاح وبعده بشعار الخلافة الإسلامية، والذي استطاع أن يخترق الحدود المتروكة للريح والمجتمعات المتصادمة بالسلاح مع أنظمة الحكم فيها.
ومن طرائف هذا الوضع أن تصبح الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية التركية التي يحكمها، حتى إشعار آخر، «الإخوان المسلمون»، جبهة واحدة في مواجهة التنظيمات الإسلامية التي انضوى في صفوفها أشتات المسلمين الهاربين من يأسهم من بلدانهم وفيها إلى وهم الخلاص عبر دولة الخلافة وجيشها المزود بأحدث أنواع السلاح، ولا سيما بعد غنائمه الممتازة التي جناها من ثكنات الموصل ومواقع عسكرية أخرى في العراق، وأقل منها في سوريا، ثم من خزائن مؤسسات حكومية عراقية وسورية قبل الحديث عن «الضرائب» التي فرضها على من اضطر إلى البقاء في «دولته» العتيدة وتحت سلطانه.
إن العرب عموماً، وعرب المشرق خصوصاً، في حال من التيه يخوضون في دمائهم ويعيشون حالة من الانقسام الذي أخذهم إلى الاقتتال الأهلي وقد يدفعهم إلى المزيد منه، طالما افتقدوا وحدتهم الداخلية في كل قطر من أقطارهم، فضلاً عن تباعد دولهم إلى حد الخصومة والاحتراب.
إلا إذا حصلت سلسلة من المعجزات التي طالما عاش العرب ينتظرون أن يتدخل الغيب لإحداثها فيعودون إلى وعيهم والى إمساك مصيرهم بأيديهم.