بقلم: طلال سلمان
أما وان لبنان، ومن بعده العديد من البلاد العربية وبعض الإعلام الدولي، قد وجدوا جميعاً ما يثيرهم، غضبا أو حزنا أو شماتة، في حالة الوهن بل العجز التي يعيشها الإعلام في لبنان، مكتوبا ومرئيا، فلا بد من بعض الكلام الصريح حتى الوجع عن هذا الإعلام والظروف التي تحكم صيرورته.
هناك، بداية، الحالة السياسية العامة التي يعيشها العديد من الأقطار العربية، والتي تتراوح بين «حروب الإخوة» و«الحرب على الإخوة»، التي باتت ـ عمليا ـ عنوان المرحلة الراهنة من التاريخ العربي. لقد بات السلاح هو «لغة الحوار بين الأشقاء» فحل محل التعاون والتقدم في اتجاه التكامل بدافع المصالح التي تفرضها روابط الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك.
صارت الحروب الأخوية، مباشرة أو بالواسطة، هي الأساس في الأخبار والتعليقات والتحليلات: لُغّمت الحدود ومنع كل نظام شعبه من أن يزور البلد الآخر ولو للسياحة، فضلاً عن العمل المشترك، وبدافع المصالح أولاً وأخيراً... (آخر القرارات في هذا المجال منع رعايا دول مجلس التعاون الخليجي، أي السعودية والامارات والكويت وقطر والبحرين وسلطنة عُمان من القدوم إلى لبنان، ولو للسياحة، فضلاً عن التوظيف فيه أو الاستعانة بكفاءة أبنائه... وحديثاً باعتماد الطائفية مبرراً لطرد بعض الذين أفنوا أعمارهم في إعمار أقطار الجزيرة والخليج..).
وكانت أقطار الخليج، بشعبها ثم بالجاليات اللبنانية فيها، سوقاً لتوزيع المطبوعات اللبنانية والإعلان فيها، باعتبارها «صحافة العرب»، قبل الاشتراكات والأعداد الإعلانية الخاصة التي كانت تشكل توسعة للسوق وتعزيزاً لمصادر الدخل المشروع، بعيداً عن «الشرهات» الملكية والأميرية... مع الأخذ بالاعتبار ان هذه الأقطار قد أنشأت حكوماتها أو بعض الهيئات أو الافراد المرضيّ عنهم صحفاً مقتدرة مادياً، ينفق أصحابها بلا حدود فيستقدمون الكفاءات والكادرات المهنية من لبنان ومصر أساساً ثم من سائر الأقطار العربية فضلاً عن أن الإعلان متوفر بأكثر مما تتسع لها صفحاتها التي كانت تتعاظم باستمرار.
أما في الداخل فالحديث عنه ذو شجون:
كان في لبنان حياة سياسية وبعض أشكال الصراع الفكري والطبقي تعبّر عنها أحزاب وتنظيمات ونقابات واتحادات مهنية فضلاً عن نخب المثقفين والمعنيين بالشأن العام تكتسب الصحف بعض أسباب انتشارها منها إضافة إلى تمكن عادة قراءة الصحف، بما هي تعبير عن الاهتمام بالشأن العام، والرغبة في المعرفة، لأن «الجمهور» مسيس.
... فلما ضرب السرطان الطائفي الحياة العامة فألغى السياسة منها ليحلّ محلها الانقسام الطوائفي، بل المذهبي، واندثرت الأحزاب العلمانية وتهاوت النقابات والروابط الجامعة بين «المواطنين» الذين صيّرهم النظام «رعايا» في تنظيمات وتشكيلات أنشأتها أو غذّتها ونفختها حتى طغت فدمرت الحياة السياسية، بالأحزاب والنقابات والروابط، وأفرغت الشارع من الجمهور (أي الشعب) الذي كان واحداً في تطلعاته ومطالبه وإن تعددت التنظيمات السياسية التي قد ينتمي إليها أو يتعاطف معها، من موقعه، كمواطن في دولة ليغدو فرداً من طائفة لها مرجعيتها التي تصادر حقوقه كمواطن لتعيده إلى أحضان الطائفة أو المذهب بوصفه رعية لها مرجعيتها السياسية سواء أكانت مفردة أم ثنائية أم ثلاثية، هي طريقه إلى الوظيفة، أية وظيفة، في الدولة (أو حتى في القطاع الخاص)، تتحكم بمصدر عيشه فضلاً عن موقع عمله ومنصبه فيه.
متى انتفت السياسة التي تجمع أو تفرّق على قاعدة فكرية ـ سياسية ـ مطلبية ـ قطاعية وصارت الطائفية، بل المذهبية، الطريق الوحيد إلى الوظيفة والمعاش (رغيف الخبز)، تحوّلت مختلف التنظيمات الجامعة، بما فيها النقابات، إلى أشلاء وهياكل مفرغة من أهلها تعيش في الماضي وعليه في ظل اليأس من الحاضر والمستقبل.
متى انتفت الحياة السياسية وتحول «الصراع بالمبادئ والأفكار والمصالح» إلى تنظيمات وأحزاب وتجمعات طائفية ومذهبية، تهيمن على الدولة والقطاع الخاص (كمصدر للوظيفة) وتدمّر وحدة الشعب بدءاً بالمدرسة وصولاً إلى الجامعة، يصير طبيعياً أن ينصرف الشعب ـ المهدد في وحدته الوطنية ـ عن السياسة، ويتحول إلى رعايا للطوائف ومرجعياتها وتنظيماتها التي تحتكر السياسة فتطفئها وتهيمن على الدولة بمؤسساتها وإداراتها.
نخلص إلى أن «سوق الصحافة في الداخل» باتت مضروبة بانعدام الحياة السياسية، مع سيادة الطائفية والمذهبية على الحياة العامة، وعلى سوق العمل ـ أي الوظيفة، رسمية أو في القطاع الخاص ـ وانقرض «الرأي العام»، أو كاد (أبسط الأدلة موضوع النفايات...).
أما سوق الخارج (سوريا ومعها العراق خارج البحث، كذلك مصر، فضلا عن ليبيا وتونس وسائر المغرب) فهي مكلفة جداً، خصوصاً إذا ما انتبهنا أن أسواق المملكة وإمارات الخليج قد باتت خارج البحث... ثم إنها لم تعد مصدراً للإعلان، بل لقد انتقلت إلى وسائل إعلامها الميزانيات الكبرى للإعلان (وهو أجنبي أساساً، باستثناء الوفيات التي يكرّس النّعي فيها مكانة الفقيد وذرّيته..).
تبقى الدولة ودورها في مثل هذه القضية الحيوية التي نحب أن نفترض أنها تشغل الرأي العام (على فرض وجوده كقوة معنوية مؤثرة) فالحديث عنها أشبه بالضرب في الميت، وهو حرام، فهي بلا رئيس وبمجلس نيابي ميت وبحكومة مشلولة كلما اجتمعت توقّع الناس مصيبة تتجاوز انفراطها إلى «اتفاق المختلفين علناً» على صفقات مريبة يجتهد الجميع في طمسها، فإن تم الإعلان عنها أو افتضح أمرها بالمصادفة «اختفى» مرتكبها وقُيّدت ضد «مجهول» يعرفه الناس جميعاً.
عشتم وعاش لبنان، مستقلاً سيداً، حراً، مركز الحضارة والتقدم والحريات والإشعاع!