جهاد الزين في العناية الفائقة: بشلل مستطير...
كشفت الأزمة الصحية الخطيرة التي مر بها ـ قبل عام أو يزيد ـ الزميل المجتهد، القلق، الحائر، العارف، القارئ، العاشق، المدنف، الكاتب ـ متقصداً ـ في المواضيع الملتبسة بيقين ثابت، عن موهبة جهاد الزين التي كانت تطل ـ بتوقيته وفي مناسبات بعينها ـ كشاعر رقيق.
لقد اعتصره الوجع حتى غيّبه عنا لفترة، وعطّل قلمه مؤقتا... وها نحن نكتشف أن «غيابه» قد بلور فيه «الشاعر»، خصوصاً وانه قد فجّر عواطفه اعترافات يجللها الشغف بالحياة ورموزها في بيته، بداية وأساساً، ثم في محيطه الأقرب، أصدقاء ورفاق عمر.
«الشعر سره المعلن ومتعته وحنينه إلى مدن وناس هم منه الحياة والبهجة».
قبل «شلل مستطير» كتب جهاد الزين، شعرا، عن اسطنبول وبغداد، أما ديوانه الجديد الموسوم بخاتم الضفة الأخرى من المرأة، ضفة العناية الفائقة، فدمشق المفضية بلا ريب إلى بيروت هي الحاضرة في كل صفحاته حضور «الوجوه الحبيبة التي سهرت عليه متوعكا»...
ولقد عشنا في «السفير» وجهاد الزين دهراً من الخلاف في قراءة الأحداث وأهمية الدول والقادة والناس، لكن ذلك كان يوطد الصداقة مع هذا المجتهد المعتز بتراثه العائلي ممثلاً، أولاً وأساساً، بالشيخ أحمد عارف الزين ومجلة «العرفان» التي كانت علامة مضيئة في زمن التحولات التي هددت الهوية القومية، وهي قد أسهمت في حماية اللغة ونشر الفكر المختلف عن السائد.
الآن نكتشف «الشاعر» في جهاد الزين وقد بلورته التجربة القاسية التي تعرّض لها وأبعدته عن الناس، إلا الأحب، لدهر، فأثمرت ديواناً حميماً، إذا صح التعبير، كشف «الوجه العاطفي» الرقيق لهذا «المتوحش» في الدفاع عن مواقفه السياسية بثقافته التي لا يفتأ يوسع أمداءها بالاجتهاد والسهر.
وجهاد الذي تربى «على مقارعة الملوك في أحلامه» عاد «على شغفين من الموت من داخل الموت، أنت السجين وأنت العصيّ لا تجوز هزيمتك الكاملة».
وهو يلخص تجربته مع المرض الذي غيّبه لفترة ليست قصيرة في صور متتابعة تكشف كم شَفَّت روحه وكم تماسك أسلوبه وهو يقاوم الغياب.
وفي المشفى اكتشف في جملة ما اكتشف «الوطن الوحيد»:
«علمت أنك راحل/ وعلمت أنك عائد/ وقد التقت فيك الطريق/ لا فرق بين الرحلتين/ فأنت حيث عائد أو أنت حيث راحل. لوّح يديك على سريرك إنه اللون الوحيد».
كذلك اكتشف أن الكاتب المخدوع بالكتب الصريعة «لن يمسه حبرها بعد الرحيل ولن يخاطب ماؤها هذيانَه».. وان «الغزاة الداخليين» قد استفاقوا وعبروا في رئتيه «واستباحوا كل ما أملك من الحقد ـ وعاثوا في سياداتي على نفسي وناموا في شراييني وفروا في الصباح».
تحتل دمشق، مع الحب وقبله وفيه وبعده، موقعها الذي لا يدانيها فيه مكان، ربما لأنها مهد حبه، ومنبت حياته الثانية التي اصطنعتها رفيقة العمر.
يقول في نميمة الحمام: «مشيت كبائع سوس يروّج مشروبه في الحميدية الظهر/ وصيحته الشاعرية تعلو «برد، برد، بردانه... أنتِ ليش زعلانه». مشيت إليك كأنا وحيدان في باحة المسجد الأموي/ وغطيت جيدك بالياسمين قبيل ارتدائك هذه العباءة/ وكان الحمام يخطف لنا الحب/ حتى يغذي نميمته الهادلة/ إنها نفحة الشام طرّزت هشاشته وعراءه».
يبدع جهاد الزين في وصف تقلب أحواله وهو يصارع مرضه ويقاوم الغياب بالحب الذي يعيشه حتى اليوم وكأنه قد دخله للتو:
«كقميص يبهره جسده/ شغفي يتراقص أذكى مني/ مجتاحاً عتمة آفاقي/ وإذا ما انحزت لمرآتي/ سأكون البائد وهو الباقي»
وإذ تأخذه نوبة الحمى إلى الغياب يعود منها بقصيدة:
«وفي الطابق الرابع المستريب/ سأغفو فتيا هنا في دمشق، وأصحو ببيروت كهلا/ سأغفو منيعا هنا في دمشق/ وأصحو هناك ببيروت هشا/ سأغفو سعيداً هنا في دمشق/ وأصحو هناك ببيروت ميتا..»
ومع نوبة أخرى يتدفق جهاد شعراً:
«وسقف تهاوى يشد على رئتي/ وفي الهوة العازلة كثرة من أياد تهيل التراب عليّ/ وأخرى تلوّح لي حين لن أستطيع الصراخ/ ولن أستطيع الوداع».
ثم يهتف كأنه يأمرك بالحياة:
«كل ما يعلو عليك/ أطلق النار عليه وعليك/ واخطف الشمس وخبّئها/ لكي يدفأ أهل الكهف بين الكتب الصيد التي لن يخرجوا منها/ إلى كهف سعيد وجديد». وفي «معزله» يستذكر جهاد الزين بعض أصدقاء عمره فيكتب عن أو إلى جوزف سماحة:
«عاينت مثواك لو خمّرته اختمرا/ فارفع كؤوسك معصوماً ومنتشرا
«المؤمنون على كفّارة رقصوا/ ومن تغاوى على إيقاعهم عبرا
...»كل الرسائل بعد الموت ميّتة/ فهل عليك سوى أن ترسل المطرا
«أو تشعل الحطب الميؤوس في امرأة/ لكي تردّ إليك النار والخطرا
«أبا الغوايات إذ تنهار هدنتنا/ وأستعيدك في بيروت معتمرا
«أبعدْتَ رأسك عن صدري كأني أنا الـ/ الذي قتلتُك.. كي أرضاك مندثرا
«أبا الغوايات في هذا العراء العري/ غوى أخير عرا والغاويات عرى،
إلى ان يختم الديوان والقصيدة قائلا:
«ضاق الخناق فمشنوقاً أرى الوتد الـ/ يلف قلبيَ لا عنقي ولست أرى».
أما قصيدة جهاد في أحمد بيضون «الذي خطف منه التباسا سوف يرجعه» فيصعب اختصارها كما يصعب اختصار من قيلت فيه..
حمداً لله على السلامة أيها الصديق اللدود والزميل المجتهد حتى في البديهيات.
كريم عبد السلام الدمياطي يرثي الملاكة من حلب
«إلى الدرك الأسفل من الجحيم» يسير بنا الشاعر كريم عبد السلام الآتي من دمياط إلى الصحافة كمعبر إلى «الثقافة الجديدة» و«القاهرة» و«سطور» التي ساهم في تأسيسها... أما ما الذي أخذه إلى حلب ليتفرغ لمواكبة «الملاكات» متمنياً لهن ما يتمناه لنفسه من فراديس ناضحة بالحنان والحب والجنس... كثير من الجنس، فذلك يبقى سرا مغلقا في صدر «اليمامة» الحلبية التي التجأت إليه أو ألجأها إليه ليكون الديوان اعتماداً على سردها البعض من المآسي التي شهدتها وكانت ـ في لحظة ـ عنواناً لها.
وللشاعر عشرة دواوين أنتجها في العقدين الماضيين فضلاً عن كتابين في النقد.
تبدأ الحكاية بلقاء الشاعر فتاة محجبة في المترو، سنعرف لاحقاً أنها «حلبية»، يصحبها إلى بيته فيسمع منها عن مآسي أهل حلب، بل سوريا، ما يستحق ديوانا بقصائد عديدة، لكل قصيدة بطلتها ـ الضحية: إلى الدرك الأسفل من الجحيم يسير بنا الشاعر راثيا ملاكاته... وبكل جرأة وعنف وألم وحب وحنان، يصرخ الشاعر رؤاه فلا يقول قائلهم مستشهدا ببرتولد بريخت: «لماذا يصمت الشعراء»:
^ الملاكة من حلب
في قصيدة «الملاكة من حلب» التي يفتتح بها ديوانه المخصص لزميلاتها الملاكات:
«انظر إلى جروحي لا لتشفق، بل لأن لديك شفائي. اضغط على يدي، يا حارسي، حتى تختفي الوحوش في مياهها العميقة الزرقاء وفي أدغالها الطينية. اضغط على يدي مثل أبي وهو يعبر بي جسر عفرين.. لأن أبي ترك يدي ومضى إلى الحرب: لأن أمي تنعى الرجل الذي يظلل عليها.
«أتت ملاكة حلب وقالت: اجعلني خاتماً على قلبك لأن المحبة قوية كالموت، وأظل بين يديك معبودتك التي تدخل الجحيم.
ابكِ بين نهدي أيامك الضائعة وابحث عن مستقبلك في شفتي.
أتت المرأة التي حاربت ألف يوم ويوم، في خنادق، منازل متهدمة، ومحال منهوبة، وغرف أطفال خالية إلا من خيالاتهم على الجدران
ما حاجتي لاقتفاء آثار الهمج على جسدك. ما حاجتي لوضع الملح في جراحك. خذي شفتي إلى نهديك. إلى كنزك المقدس، قوديني إلى مصيري الذي انتظرته طويلاً».
^ «الجمال والبنات الثلاث»
كنا ثلاث بنات من حي الشيخ مقصود/ ثلاث أخوات أقمار نسير على الرمل فينبت العشب/ ونبتسم فتخرج الشمس من مخبئها/ وعندما ندخل غرفتنا في المساء يتعلق القمر فوق بيتنا/ وفي ليال كثيرة يترك السماء لينام في غرفتنا، تحت أقدامنا. كنا ثلاث بنات/ وكان أبونا حمالاً. يخاف الله والبنادق والأيام الآتية، وعندما يبدأ القصف وتسقط البراميل المتفجرة في الجوار ويرتج بيتنا المتهالك، يعاتب الله: ألم أقل لك احفظ بيتنا العتيق؟ ألم أقل لك احم بناتي من الموت والذئاب؟
عندما لم يرد الله على أبينا /حمل الذئاب إلى غرفتنا/ وذبح القمر على وسادتي
لم يسمع صرخاتنا. لم يستجب لتوسلاتنا. لم يعترض عندما مضت الذئاب بنا إلى أوجارها ـ وتركته شيخاً وحيداً طاعناً ـ يطوف حول بيتنا المتهالك ويدور حول نفسه يسبّ القنابل والطائرات والبراميل المتفجرة ثم يطلق الرصاص باتجاه السماء.
^ «صلاة من أجل سارة»:
كفنتها المجاهدات في قميصها الأحمر «البيبي دول» ثم في ملاءة السرير، خريطة الإفرازات. المجاهدون حملوها في صندوق إلى منتصف الساحة، ثم نادوا على صلاة الجنازة. قائد فيلق الفاروق أمَّ الصلاة
في غرفتها جنوب المعسكر ظلت الشهيدة سارة تجاهد في مواجهة القوة الثلاثية لنيران الفياغرا والسيلاس وعرق الريان في عروق عشرة مجاهدين/ يحرثون أرضها فرادى وجماعات طوال ليلة بدون قمر أو مصابيح غاز
^ «زهرة حمراء في شعر لونا»
في مساء ما غادرت لونا. حزمت حقائبها وسافرت إلى تركيا قبل امتحان البكالوريا. ودّعت تونس كلها لكنها لم تودّع أمها. ودّعت القمر شبيهها في السماء لكنها لم تودّع أمها.
لونا عبرت الحدود إلى حلب وحصلت على بندقية في الكتيبة الخضراء وتعلمت القنص من مسافة بعيدة، والجهاد على أسرّة المقاتلين. أسرها الجيش الحر. وصدر ضدها حكم سريع بالإعدام، هربت إلى فيلق الشام وواصلت القنص في النهار ومضاجعة المقاتلين في الليل.
هل تعرفون لونا؟ هل شاهدتم لونا تبتسم للقمر في السماء؟ أخبروها أننا ننتظرها على العشاء.
^ «فادية البيضاء وعرق الميماس»
الجيران يتهامسون في مستشفى الباشا: أبو الليث الشبيح اختطف فادية البيضاء، منذ خمسة أيام قتل زوجها أمام المنزل، أطلق عليه الرصاص في عزّ النهار. أبو الليث طالما أراد فادية الجميلة، لكنها رفضت. أبو الليث قتل زوجها أمام عينيها.
الأسبوع الماضي أبو الليث أعطى إنذاراً لفادية. كتب لها على زجاجة ميماس.
فادية في الثانية والثلاثين لها ثلاثة إخوة في حمص لا يشربون إلا الميماس.
جاء أبو الليث إلى منزلها في بستان الباشا ولفّها في ملاءة سرير. بصقت في وجهه.. حملها إلى سيارته وفي خرابته لطمها حتى نزفت جوعها، حتى سقطت مثل ثمرة طيبة في منتصف مايو، ثم سقاها ماءً محلى بالعسل وكأساً من عرق الميماس وضاجعها طوال الليل.
فادية تنام تحت أبي الليث ويسألها: أنا أم زوجك فتجيب: أنت..
ـ قولي أعشقك يا أبا الليث، فتردد الكلمات التي ترضيه.
..وأبو الليث اكتفى من فادية وإمعاناً في إذلالها أهداها إلى الشبيح خالد حياني. فادية سرقت مئة دولار من جيب حياني أعطتها للحارس ومضت في الليل.
وفي أبعد منزل متهدم نامت حتى الصباح وهرولت إلى حواجز جبهة النصرة.
فادية تحمل بندقية قنص، ومن مخبئها تتمنى أن ترى أبا الليث وأن تواجه خالد حياني بطلقة في الصدر.
^ القبل الطويلة وماغي...
لماغي ما ليس لغيرها من النساء. لها أن تقفز عارية من لندن إلى شوارع المرجة والكــروم الجــنوبية والصالحين. لها أن تصرع من اللذة عشرة رجال كل ليلة وأن تضحك مثل طفلة سعيدة.
لماغي ما ليس لغيرها من النساء، رشاشان في عينيها الزرقاوين ومدفع في شفتيها، ونهداها دباباتان، وبين ساقيها بركان لا يتوقف عن الثوران.
لماغي أن تضاجع الأمير وحارسه، وبعد أن تصرعهما تنادي الكتيبة شيخا شيخا، مجاهدا مجاهدا، ثم تضع صورتها بالعمامة والرشاش على فيس بوك وتدوّن: أنا في الجنة!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا ترهق حبيبك بطلب الاعتراف بحبك في الحضور وفي الغياب. الحب يكون أو لا يكون.. لا تقوى على استحضاره الكلمات غائباً ولا على تغييبه متى حضر. تنهيدة واحدة تكفي، ملامسة اليدين مصادفة تطلق البرق وتستدعي الرعد ليؤكد المؤكد!