علي الأمين
تكاد الأزمة السورية تبدو تفصيلا، ولبنان هامشا، ازاء المشهد العراقي اليوم. فالازمة العراقية تكشف عن انيابها وتبث سمومها في الجسد الاجتماعي العراقي، بل في الجسد العربي، وتحديدا في هذا الهلال الذي سموه شيعيا او ممانعا لا فرق. المهم ان العراق انكشف على اللادولة، والدولة هنا باعتبارها كيانا سياسيا يقوم على اسس عقلانية محكومة بالقانون وليس بالفتاوى المذهبية وبالتقديرات الشخصية.
القاعدة الاجتماعية العراقية التي تقبلت "داعش" واحتضنتها ودعمتها، في وجه حكومة المالكي وجيشها، تكشف مدى الشرخ الهائل بين السلطة العراقية وهذه القاعدة. بل تكشف اكثر من ذلك بكثير ان لا جيش في العراق لديه وطن يذود عنه، فالجندي العراقي يفتقد عقيدة وطنية تجعله يدافع عن الدولة ضد متمردين عليها، ويفتقد حتى شعوراً بأنه قوة تلقى احتضانا شعبيا ووطنياً... مشكلة العراق وجيشه ان ليس هناك دولة يجب حمايتها، وهذا هو المعنى العميق للفتاوى الشيعية التي صدرت من النجف بالدعوة الى التعبئة لحماية المراقد المقدسة، او تلك الفتاوى "الداعشية" التي هددت بإزالتها. بين هذه وتلك انكشف الصراع على اسوأ ما يمكن ان يكون.
رد الفعل الاميركي على سقوط مدينة الموصل وغيرها من مناطق الوسط في العراق، وعلى انهيار الجيش العراقي، ان لا تدخل اميركي، فقط نصائح وجهت ببرودة الى المالكي بأن يتعامل مع الازمة كرجل دولة لا زعيم طائفة. فالاميركيون ليسوا مضطرين لنصرة طائفة على اخرى في العراق. اذ يقرأ الاميركيون ما يجري في العراق، على انه يشهد صراعاً له مضمون ثقافي واجتماعي خاص ليس عابرا للحدود، بما لا يشكل تهديدا للمصالح الاميركية او الاسرائيلية. الاهم ان الاميركيين لا يعتقدون ان احداً يريد استهدافهم في هذه المواجهة. فالقوى الاصولية في العراق، لاسيما "القاعدة" و"داعش" وتوابعهما، لم تعد واشنطن بالنسبة اليها هي الخطر الداهم كما كان عليه الحال يوم سقوط النظام العراقي بقوة الاحتلال الاميركي عام 2003. بل إن الخطر اليوم هو ايران والشيعة.
وهذه الجماعات تلاقي دعواتها التوسعية خصوبة في العصب السني، ما يمكن ملاحظته حين لا يجد الحاضن السني مشكلة مع "داعش" الذي يريد ان يحارب ايران والشيعة. كما ان "داعش" لم تثر حفيظة الاتراك رغم وجودها على حدودها، ولم تستفز المكون الكردي في الشمال، ولا حتى الادارة الاميركية التي بدت كمن يقول: "بطيخ يكسر بعضو". فبندقية "داعش" موجهة نحو الجنوب وصولا الى ايران. ولا همّ طالما ان هناك نوعاً من مصالحة موضوعية مع اميركا واسرائيل منجزة على ضفتي القتال الشيعي - السني.
اكتساح "داعش" لمناطق شاسعة في العراق شكل صفعة قوية لايران، تلك التي كانت ترى الى العراق منطقة نفوذ لها مستقرة نسبيا. هي التي تباهت عبر مسؤوليها بأنها أمنت انسحابا آمناً للجيش الاميركي من العراق، وعبرت عن اعتدادها بأنها هي من يقدم الضمانات الى الغرب في هذا البلد. وها هي اليوم امام انفجار اجتماعي جعل المشهد مذهبيا بامتياز... هو مشهد الحرب السنية – الشيعية.
رد الفعل على اكتساح "داعش" لم يأت من الدولة العراقية، بل ثمة ميليشيات شيعية اخذت زمام المبادرة، واحتلت الرموز المذهبية الشيعية مشهد الرد. من فتوى التعبئة التي اصدرها المرجع السيستاني الى صور المالكي امام اضرحة الائمة الشيعة، الى السيد عمار الحكيم ينخرط في القتال بعمامته الشيعية، الى مئات الصور التي يجري تناقلها لرجال دين شيعة يستقبلون المتطوعين للقتال. ومقتدى الصدر يعيد جيش المهدي الى الحياة... لكن السؤال هو: اين الجيش واين الدولة؟ وهل الرد على "داعش" يكون على اساس مساندة الدولة لمحاربة خارجين عليها ام من خلال العنوان المذهبي؟
عناصر التعبئة ليست تعبئة دولة ضد متمردين عليها، وليس اصطفاف مشروع سياسي عراقي ضد مشروع سياسي له رؤية مختلفة للدولة. فمجرد ان يحمل احدٌ السلاح دفاعا عن المقامات او رموز مذهبية فيما هو لم يحمل السلاح دفاعا عن الدولة، لهو دليل على ان حكام العراق قد نجحوا في دفع المزاج الشعبي العام الى الاشكالية السنية – الشيعية.
اذا كانت تبدو سورية تفصيلاً، ولبنان هامشاً، في انطلاق الحرب المذهبية من العراق، فإن ذلك لا يقلل من كون الهلال الشيعي الممتد من ايران الى العراق وسورية ولبنان انفجر من داخله في سورية وانتقل الى العراق. وكشف ان محاولات ايران بناء مشاريع تحلق في الفضاء بعناوين ايديولوجية وادوات مذهبية، مهما كانت مرتكزة على قواعد دفاع متقدمة، تبقى معرضة للانهيار طالما انها لم تعط اعتبارا للمشهد الاجتماعي. ايران التي ساعدت على اسقاط صدام حسين، منعت سقوط بشار الاسد بقوة التدمير والقتل. وهو سلوك كان كفيلا بنقل الاسئلة والنقاش من اسئلة الربيع العربي والثورات الى الاشكالية السنية – الشيعية وشهية حرب المئة عام.