بقلم : حسن البطل
هل حقاً تموت الأشجار واقفة؟ تلك التينة العجيبة، آخر «شارع الأيام» توسّدت فروعها وأفنانها الأرض، منذ آخر ثلجة كثيفة، شطرت جذعها نصفين، كأنها ضربة سيف خرافي، ولحاء الشجرة نصفين أيضاً، وحتى النسغ.
قلب الشجرة الخشبي مثل عظام من السيلِلوز، ولحافها من قشرة تقمط قلبها، وبين القلب والقشرة، هذا النسغ، كأنه عروق من أوردة وشرايين تمدها بالحياة. الدم في العروق هو حياة.
إن هرمت الشجرة ماتت واقفة. يقولون قتلها السوس، لكن السوس القاتل يعفّ عن شجرة التين بالذات. اقطف حبة تين ترى حليبها المضاد للتسوس بعد سبات شتوي للأشجار نفضية الأوراق، يوقظها الربيع، وتطلّ من رؤوس أفنانها براعم ورقية كأنها أصابع الرضيع، تورق الأفنان والغصون صيفاً، وتطرح أول الصيف ثمرات من «الدفوري»، وآخر الصيف ثمرات تين عسلي شهية المذاق، مختلفة الألوان. للأشجار المثمرة دورة حياة، ولتلك التينة العجيبة دورة حياة بعد ست سنوات من ثلجة كثيفة قسمت جذعها نصفين تماماً، ولحاء الشجرة أيضاً.. وبقي هذا النسغ يمد الشجرة بالحياة. النسغ هو دم الشجرة، ونسغ التينة لا يقرب منه هذا السوس. هو مناعتها من الموت على كبر.
تحتاج التينة إلى جرعة من الصقيع الشتوي، أو تحتاج أكثر أن يكللها الثلج الأبيض، حتى لا تصاب ثمراتها بالابيضاض، لكن ثلجة كثيفة وكبيرة قد تقصف فروع أشجار أخرى دائمة الخضرة من وزنها الثقيل، إلاّ التينة وحدها ينقسم جذعها نصفين ولحاؤها أيضاً، وحتى نسغها بين عظامها واللحاء. نسغ الحياة للأشجار، هو زمرة دمها غير الأحمر، كدم الكائنات العليا ذات زمر الدم العديدة.. وكلها حمراء اللون.
***
للربيع لونه الأخضر الطاغي، وللربيع الأخضر وروده وأزاهيره من كل لون، ولزهرة التوليب لونها الأحمر الغالب إن كانت برية أو داجنة، لكن إن قطفت زهور توليب برية، ووضعتها في كأس ماء، مع قليل من السكر، أو نصف حبة إسبرين أطفال لتطيل عمرها، حياة غريبة.. بعد أيام من ذلك؟ يبدأ لونها الأحمر في الشحوب كأنها تنزف دمها لتموت، وتصير بتلاتها الحمراء بيضاء.
هل يوجد في ألوان الزهور لون الموت الأسود؟ في الطبيعة كلا، لكن عالم نبات صرف عمره في استنبات توليب أسود، وجاء أديب وجعل من قصة عالم النبات رواية غريبة اسمها «التوليب الأسود»، كما جعل أديب آخر من «الرائحة» رواية غريبة.
قطفت «توليب» بريا. وضعته في كأس ماء، وانتظرت كيف تتفتح بصلتي توليب في قوارة على الشرفة. إنها تذبل شيئاً فشيئاً، لكن أوراقها الحمراء تظلّ حمراء إلى أن تتساقط. كأنها تقول: إلى اللقاء في العام المقبل.
قد تشكل زهور شقائق النعمان بساطاً أحمر، لكن زهرة التوليب هذه تراها في الطبيعة خجولة متناثرة هنا وهناك، ونادرة ما تشكل زهور السوسن الزرقاء بساطاً أو مسكبة زرقاء ـ ليلكية.
***
هناك هذا النتش، الذي لا يخلع ثوبه الأخضر الداكن على تقلُّب الفصول. إنه يمسك تربة التلال من الانجراف. نبات قنفذي الشكل والشوك، لكنه في صحوة الربيع يزهر نورات تحبها قطعان الخراف والسخول، أو تفضلها في الاقتيات، كما يحب أهل البلاد موسم العكوب الشوكي، أو موسم الخبيزة الذي ينبت فجأة أول الشتاء، ويزهر آخر الربيع، ويصير بعدها طعاماً للدواب والحمير والبغال، أما الإبل والجمال والنوق فإنها لها طعامها المفضّل كذلك.
***
في آخر آذار «يوم الأرض»، وفي هذا الشهر تبدأ أشجار الزيتون دائمة الاخضرار في تفتيح نورات الزيتون، التي تعقد آخر الخريف وأول الشتاء حبات الزيتون زينة المائدة الفلسطينية.
كان يهود إسرائيل يقولون: الزيتون طعام العرب والدواب، ثم صاروا يقولون إن الشجرة القومية لإسرائيل لم تعد الصنوبرة، بل شجرة الزيتون؟
كان نطاق الزيتون هو النطاق الجغرافي المتوسط، لكن صارت الزيتونة، مع التهجين، تنبت خارج هذا النطاق: للزينة أولاً، ثم لحصاد قليل من حبات الزيتون.
هل هذا بفعل احترار جو الأرض، حيث يزعم صديقي في لندن بأنه صادف شجرة تين وحيدة في لندن، وقطف منها حبّة واحدة، وسط صراخ صاحبة الحديقة.
حسن البطل