وليد شقير
في المخاض الشديد التعقيد، والعصيّ على الفهم أحياناً، الذي يعيشه لبنان للتوافق على قانون جديد للانتخاب، لا يخرج البلد الصغير عن حقيقة وجوهر ما يحصل في الدول المتجاورة المصنفة دول محور النفوذ الإيراني، لا سيما في سورية والعراق.
ومع أن لبنان يغرق في كمٍّ هائل من التفاصيل التي توازي فسيفساءه الطائفية المملوءة بالعقد واعتقاد كل طائفة أنها محور الدنيا، فإن هذا لا يلغي أن الصراع على قانون الانتخاب هو خلاف على إعادة إنتاج السلطة وتحديد هوية قرارها في السنوات المقبلة. وبهذا المعنى يشبه ما يجري في لبنان ما يحصل في سورية وفي العراق. ومع اختلاف المعطيات الداخلية ودينامية العلاقات بين المكونات السياسية – الطائفية في الدول الثلاث، فإن التشابه الجوهري بينها لا يحتاج الى كبير عناء لاكتشافه: لن تقبل طهران قيام سلطة في أي منها تلغي أرجحية نفوذها فيها و «انتقالها» إما الى شراكة أو سيطرة أي محور آخر سواء كان عربياً – تركياً، أو خليجياً – غربياً في أي منها.
فبالحد الأدنى تسعى طهران الى تأخير انتقال السلطة من نظام بشار الأسد الى معارضيه، على الأقل حتى عام 2014 الذي يفترض أن يشهد الانتخابات الرئاسية في سورية. وفي الحد الأقصى تقوم خططها على بقاء الأسد مدة أطول، على رغم الاعتقاد بأنها ترى ضمنياً صعوبة صموده أكثر. وربما تدفعها هذه الصعوبة الى التشدد أكثر في تأخير سقوطه، وفي عدم تغيير الأسس التي تقوم عليها السلطة في كل من بغداد وبيروت اللتين ستتأثران مباشرة بالتغيير بسقوط الأسد. ولذلك يتشابه السلوك في الدول الثلاث: لا يرف جفن للمسؤولين الإيرانيين إزاء تصعيد الدعم لنظام اغتصب السلطة بوحشية قلّ نظيرها على مدى عقود ويستمر في ممارستها بأبشع صورها فتقرضه بليون دولار إضافة الى دعمه بالمال والسلاح والمقاتلين الذين تزداد أعداد تورطهم مع مقاتلي «حزب الله» في الداخل السوري، هذا على رغم ازمة ايران الاقتصادية الناجمة عن العقوبات. ولا يرف لهم جفن إزاء النجاح في ترجيح كفة نوري المالكي والائتلاف الشيعي في رئاسة الحكومة «العراقية» منذ 2010، على رغم نيل قائمة «العراقية» الأكثرية في الانتخابات البرلمانية في حينه. ولا يرف لهم جفن إزاء التمسك بأرجحية نفوذ «حزب الله» في حكومة قامت على ضغط السلاح وما سمّي ظهور «القمصان السود» في الشوارع كتهديد باستخدام القوة إذا أعادت الكتل البرلمانية سعد الحريري الى رئاسة الحكومة.
ومع تفاوت العنف في كل من الدول الثلاث، فإن الجوهر هو نفسه، أي الحؤول دون التغيير، الى أن ينتج التفاوض المحتمل مع الغرب حول ملف إيران النووي ونفوذها الإقليمي معادلة جديدة، في ضوئها يمكن أن تقبل هذا التغيير أو بصيغة شراكة جديدة في كل من هذه الدول.
تتشابه اقتراحات الحلول ومناورات تأجيل التغيير في الدول الثلاث: في مبادرة إيران حول سورية تتقدم دعوتها الى الحوار على حكومة انتقالية وتعتبر أن 90 في المئة من الشعب مع الأسد الذي يزودها بحجة إضافية هي ربط الانتقال بتحقيق الاستقرار. ويواجه المالكي تصاعد الدعوات الى تنحيه بالمطالبة بالحوار وبتحقيق الاستقرار. ويصرّ «حزب الله» في لبنان على أولوية الحوار (الذي كان عطله قبل سنة) وضمان الاستقرار قبل التغيير الحكومي. إنه تشابه ينتج التعابير نفسها في الدول الثلاث. فانتزاع قرار السلطة من حلفاء إيران يعني تقويضاً للاستقرار. يتميز لبنان بتعقيداته العصية لأن الانتخابات النيابية في الربيع المقبل استحقاق دستوري قد يكون غير مضمون النتائج للاحتفاظ بأرجحية إيرانية (وسورية) في المعادلة الحاكمة، ما يطرح احتمال تأجيل الاستحقاق للحؤول دون تغييرها، إذا لم تنجح جهود اعتماد قانون انتخابي يضمن النتيجة مع حلفاء الحزب، لمصلحة بقاء هذه المعادلة. والمطلوب هنا إنقاص الحصة السنّية لزعامة الحريري والحصة النيابية للكتلة المرجحة لوليد جنبلاط الذي يتيح له موقع الوسطية التأرجح بين هذا الفريق أو ذاك. وهو موقع غير مضمون.
يزداد التعقيد في لبنان بفعل الوضع المسيحي المأزوم الذي يخشى الصراع السنّي – الشيعي، ويسعى الى استعادة المبادرة في قلب السلطة لمناسبة تصاعده المرتقب، فيجنح قادته نحو اقتراح قانون انتخاب كل مذهب لنوابه في سياق المبارزة على النفوذ بين المسيحيين. فالقادة الأربعة الذين اتفقوا عليه، الرئيس أمين الجميل، العماد ميشال عون، سمير جعجع وسليمان فرنجية، مرشحون للمنصب الماروني الأول، رئاسة الجمهورية عام 2014، ويسعى كل منهم لإثبات وزنه المسيحي ليكون جزءاً من المعادلة الحاكمة المقبلة.
ومع أن كثيرين اعتقدوا أن تأييد «حزب الله» هذا القانون المذهبي يشبه استناده الى قاعدة مذهبية، فإن هذا التأييد يمكنه من استخدامه لمصلحة تحجيم الحريري وجنبلاط، أو للتفاوض معهما «بالحوار» على صيغة الحكم بعد الانتخابات.
نقلاً عن جريدة "الحياة"