بقلم : وليد شقير
تطل حقبة جديدة من الأزمة السياسية في لبنان، مع اقتراب المخرج المحتمل لأزمة الشغور الرئاسي، بانتخاب زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون رئيساً.
قد يفضي المشهد السياسي اللبناني الداخلي بعد التحول الذي أعلنه زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري باتجاه خيار عون رئيساً إلى أرباح تكتيكية لعدد من الفرقاء اللبنانيين. «حزب الله» كسب نجاحه في تمرير المرشح الذي عطل انتخاب الرئيس سنتين ونصف السنة نتيجة إصراره عليه. ويكفيه تبرير بعض معارضي رئاسة عون بأنه خيار إيراني ليستدل منه الحزب على أن تقدمه في انخراطه بالصراع الإقليمي كرّسه في قلب السلطة اللبنانية. العماد عون حصل بتحالفه مع المسيحي القوي الثاني رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، على أمنيته بأن يصبح الرئيس، وأقنع جمهوره بأن عناده، على رغم شلّه المؤسسات، أوصله إلى ما وعد به هذا الجمهور من استعادة المسيحي القوي دوره في السلطة. الحريري أظهر قدرته على التنازل لأجل إنهاء الفراغ القاتل في السلطة وأخرج نفسه من دائرة الاتهام الذي ألبسه إياه «حزب الله» بأنه يحول دون الشراكة بعدم تسليمه بالمسيحي القوي على رأس الدولة، ونقل المشكلة إلى خصومه، حلفاء عون، وخصوصاً الحزب، ليتدبروا مشكلة رفض رئيس البرلمان نبيه بري خيار الجنرال، ووضعهم أمام تحدي تسهيل مهمة الأخير في الحكم. وقد يكون من بين مكاسب الحريري أنه بمبادراته تسبب بخلط الأوراق على صعيد اللعبة الداخلية فأربك خصومه. وجعجع ربح من الاستدارة نحو عون منذ مطلع هذا العام، مشروعية القائد المسيحي الذي نجح في استعادة القيادة المسيحية الوازنة التمثيل موقعها داخل التركيبة اللبنانية، بعد سنوات من الإحباط، ما يمكنه من رفع رصيد مستقبله السياسي ضمن الطائفة.
وقد يزين البعض على الطريقة اللبنانية التسوية التي حصلت، على أن الرئيس يأتي في ظل شعار «صنع في لبنان» في ظل الانصراف الإقليمي والدولي عن معالجة أزمة البلد الصغير، الذي اعتاد على استخراج اسم رئيسه من التسويات الخارجية، مصحوبة برعاية مرحلة ما بعد انتخابه.
لكن المكاسب التكتيكية لفرقاء متناقضين تجافي هذه المرة الواقع المحيط بلبنان من صراعات دموية وعسكرية وسياسية لتقاسم النفوذ وتوزيع المغانم الإستراتيجية البعيدة أو المتوسطة المدى، في شكل يطرح السؤال حول مدى قدرة التسوية المحلية على الصمود في هذا الخضم الإقليمي الهائج.
فبين الاقتناع المنطقي بأن انتخاب الرئيس هو مفتاح انتقال لبنان إلى إدارة أزمته بأقل الخسائر، وبين الاعتياد على الشغور الرئاسي ومواكبته بـ «بتفعيل المؤسسات»، الحقيقة الساطعة هي أن التأزم اللبناني ليس إلا انعكاساً للصراع الإقليمي.
على مدى السنوات الماضية وجد الخارج عبر حلفائه المحليين وسيلة لإبقاء لبنان رهينة الصراع الإقليمي من طريق عناوين وشعارات عدة. وأبرز هذه الشعارات اختراع معضلة «الميثاقية». فباسمها افتعل النظام السوري الأزمة الكبرى التي أدت إلى انسحاب وزراء «حزب الله» وحركة «أمل» من الحكومة من أجل إجهاض قيام المحكمة الدولية لمحاسبة قتلة الرئيس رفيق الحريري، من طريق نزع الشرعية عن الحكومة التي أقرت المحكمة، بحجة أنها غير ميثاقية. وباسم الميثاقية جرى فرض الثلث المعطل من جانب الحزبين وحلفائهما المحليين والإقليميين للتحكم بقرار السلطة التنفيذية وإطاحتها عند الحاجة، كما حصل عام 2011. باتت الحجة عند قوى سياسية أخرى لاستخدام عدم الميثاقية، فتعطل البرلمان تارة لغياب «تيار المستقبل» بصفته الممثل الرئيس للطائفة السنية، وأخرى بسبب الغياب المسيحي. انتقل استخدام الميثاقية التي كانت وسيلة لتعطيل الحياة السياسية والدستور والنظام السياسي، من التحالف الشيعي إلى القيادة المسيحية الأبرز، أي «التيار الوطني الحر» بزعامة عون، من أجل فرض رئاسة الأخير للجمهورية، ما تسبب بفشل البرلمان وحكومة الرئيس تمام سلام في إدارة أزمة الشغور، وحال دون الإتيان برئيس توافقي.
تحت ضغط شعار الميثاقية جرت التسوية على رئاسة العماد عون، فهل ينتهي استخدام هذا الاختراع المفتعل لينتظم الصراع على السلطة في أطر دستورية وداخل المؤسسات؟
في الأفق مرحلة جديدة من التعطيل كمرآة للصراع الإقليمي، باسم الميثاقية أيضاً، للحؤول دون تمكن العهد المفترض من الانطلاق على رغم التسوية. فهي تلقى اعتراضاً من فريق شيعي وازن هو بري الذي سيمتنع عن المشاركة في التركيبة المقبلة، في ظل تحالفه المتين والمقدس مع «حزب الله». وباسم الميثاقية قد يتبدد الانفراج الذي تحدثه التسوية، لأن التمثيل الشيعي في الحكومة التي سيرأسها الحريري سيكون عنوان المأزق الجديد. فهل يكتفى بحصره بـ «حزب الله»؟