عريب الرنتاوي
معارضو الرئيس محمد مرسي وإخوانه، على يقين تام، بأن واشنطن تقف بصلابة خلف نظام الرئيس المعزول وحكم الإخوان، وهم يحدثونك ليل نهار، عن "صفقات" أمريكية – إخوانية، لعب الشاطر وغيره، دوراً محورياً في إبرامها، فيما وزير الخارجية الجديد، سبق له وأن كشف عن مسلسل اتصالات أمريكي – إخواني يعود لسنوات عديدة مضت ... أما رجل مصر القوي، الجنرال عبد الفتاح السيسي، فلم يتورع، ومن على صفحات "الواشنطن بوست"، عن شنّ هجوم غير مسبوق على الإدارة الأمريكية لدعمها الإخوان، و"إدارة ظهرها" لتطلعات الشعب المصري وأحلامه، وهو الذي كانت التقارير قد وصفت لقاءه الأول في موقعه الجديد مع وليم بيرنيز، بالساخن والمتوتر.
أما الإخوان، فهم وإن كانوا يتوجهون بنداءات التدخل إلى المجتمع الدولي (اقرأ الولايات المتحدة)، وتصدر عنهم بين الفينة والأخرى مواقف تعكس "العتب" وليس الانتقاد للموقف الأمريكي، إلا أن بعض قياداتهم لا تتورع في المقابل، عن كيل الاتهامات لواشنطن، بالتواطؤ مع "الانقلاب العسكري" و"الفلول" و"الرجعية العربية" ... وتشتد نبرة الاتهام وتعلو حين يتحدث إخوان الأردن وفلسطين عن الأزمة المصرية ... هنا يجري الحديث عن مؤامرة صهيو – أمريكية بامتياز.
الساحات والميادين، رددت صدى هذا الانقسام في تقييم الموقف الأمريكي من الأزمة المصرية ... تجد في "رابعة العدوية" و"النهضة" عبارات تتهم "الانقلابيين" بالتآمر مع واشنطن للإطاحة بحكم الإخوان .... بيد أن الصورة من "ميدان التحرير" و"ساحة الاتحادية"، أشد وضوحاَ واتهامية وتصل حد المطالبة بطرد السفيرة الأمريكية آن باترسون، وطلب اعتبارها "شخصاً غير مرغوب فيه على الأرض المصرية".
ولقد ساعد تضارب التصريحات والمواقف الأمريكية، على تعميق الالتباس في فهم الموقف الأمريكي وتصنيفه ... ففي الوقت الذي كانت فيه الأصوات تتعالى في الكونغرس وغيره، مطالبة بوقف المساعدة الأمريكية للجيش وتعليق تسليم طائرات إف 16، وفي الوقت الذي تكاثرت فيه التقارير التي تتحدث عن "مكالمات هاتفية" صعبة بين السيسي وهايغل، وضغوط على المؤسسة العسكرية المصرية من أجل وقف الاعتقالات في صفوف الإخوان والإفراج عن مرسي ... في هذا الوقت بالذات، كانت تصدر من واشنطن، وعلى لسان جون كيري نفسه، مواقف ترفض فرضية "الانقلاب العسكري"، بل وتعطي للسيسي والجيش، دوراً إنقاذياً في "استعادة الديمقراطية إلى مصر" ... قبل أن يعود ويتراجع عن تصريحاته، مخففاً من حدتها ومبالغتها.
أين تقف واشنطن من الأزمة المصرية حقيقةً، وإلى أي جانب تصطف؟ ... هل هي منحازة فعلاً للإخوان ونظامهم ورئيسيهم المعزول؟ ... هل هي منحازة لثورة يونيو والجيش وعبد الفتاح السيسي؟ ... أم أنها تكتفي في هذه المرحلة على الأقل، بدور المراقب والوسيط بين الأفرقاء المصطرعين؟ ... أسئلة وتساؤلات، تشغل اهتمام المراقب والسياسي ورجل الشارع العادي.
من دون تردد أو تلعثم نجيب على السؤال الأول بالقول: أن واشنطن تقف إلى جانب مصالحها في مصر والمنطقة، وهي تصطف إلى جانب الفريق الذي يحفظ هذه المصالح ويصونها ويعظمها ... فعلت ذلك عندما كان نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك قادراً على "تأمين" البضاعة، والقيام بالدور على أكمل وجه ... وهي واصلت فعل ذلك، عندما أيقنت أن نظام الرئيس المعزول محمد مرسي، أقدر من سلفه، على تأمين "البضاعة" ذاتها، ورفع قيمتها أيضاً ... وهي لن تتوقف عن الاستمرار في فعل ما فعلت، إن هي شعرت أن نظام ما بعد يونيو والجيش والسيسي، يمكن أن يقوموا بذات الأدوار.
ما هي هذه المصالح؟ ... يمكن اختصار مصالح واشنطن في مصر: بحفظ أمن إسرائيل على الحدود ومن سيناء وغزة، وإدامة علاقات السلام والتطبيع الرسمي والتعاون الأمني معها، والتساوق مع الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة، فضلاً عن تأمين خطوط الملاحة وشرايين النفط والغاز والتجارة العالمية.
مبارك، سليل نظام كامب ديفيد وشريكه، كان خياراً أمريكياً مفضلاً لما يقرب من الثلاثين عاماً، دعمته واشنطن نظير قيامه بحفظ مصالحها، ولم يكن لديها مانع في دخول "الوراثة" على خط الرئاسة في مصر، عملاً بـ “السابقة" السورية ... لكن حين اهتزت الأرض ومادت من تحت أقدام مبارك وأنجاله، سارعت واشنطن، كدأبها، للتخلي عنه، وتركه يواجه مصيره بنفسه، بل وكانت السبّاقة في دعوته للتنحي والرحيل.
لم يكن من الصعب على واشنطن أن تدرك أن حكم مصر، سيؤول للإخوان المسلمين، كأكبر قوة منظمة في المجتمع المصري، مهدت لذلك بسلسلة لقاءات ومشاورات و"عمليات جس نبض"، سراً وعلانية، مع قادة الإخوان وموفديهم، إلى أن أيقنت أن شيئاً لن يتغير في مصر "في ظلال القرآن"، قبلت بالمعادلة، تركت للإخوان ما تركته لمبارك، وأخذت منهم ما أخذته منه: حفظ أمن إسرائيل والسلام معها، وتأمين طرق الملاحة والتجارة والنفط والغاز، والتساوق بأشكال مختلفة، مع الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة.
لكن واشنطن تفاجأت للمرة للثانية خلال أقل من ثلاث سنوات، بطاقة الشعب المصري على تفجير ثورات شعبية غير مسبوقة في التاريخ ... راقبت الأرض تميد تحت أقدام حكمهم في مليونيات الثلاثين من يونيو والسادس والعشرين من يوليو ... بيد أنها ليست متأكدة بعد، كيف ستكون الأحوال في مصر في قادمات الأيام والأشهر، وهي ليست على يقين بأن أي انتخابات قادمة، ستأتي ببدائل عن الإخوان، في ظل انقسامات المعارضة وتشظيها وغياب زعاماتها الكارزمية ... حارت واشنطن في تقرير وجهة تحالفاتها واصطفافاتها ... ترددت بين استمرار دعمها لنظام موثوق، برهن على وفائه بالتزاماته في تجربة السنة الأولى من الحكم، أو الرهان على نظام جديد، لم تتضح معالمه وملامحه بعد، لكنها في الحالتين، ظلت على انحيازها المطلق لمصالحها، مكتفية بإطلاق المواقف المتضاربة، والإشارات المتناقضة.
واشنطن باتت تعرف جيداً، أن مصر لن تستقر ولن تحكم من دون الإخوان المسلمين، وهذه حقيقة لا يختلف حولها اثنان، لكن مصر، لن تحكم بهم وحدهم في الوقت ذاته، وهذه حقيقة ثانية، لا يختلف حولها عاقلان كذلك ... لا مستقبل لمصر أو الديمقراطية فيها، من دون مشاركة الإسلاميين ... ولا مستقبل لمصر أو للديمقراطية فيها، إن ظل الإخوان على استمساكهم بخطابهم الإقصائي – الإيديولوجي الخارج عن العصر وروحه ... هي معضلة واشنطن في مصر، بل هي معضلة المصريين، كل المصريين ومن خلفهم العرب جميعاً.
نقلا عن موقع القدس للدراسات السياسية