لا يجادل أحدٌ في واقعة خان شيخون الإجرامية، ولم يبق طرفٌ من دون أن يدينها بأقوى العبارات وأشدها ... الخلاف يدور حول «حجم» الجريمة وهوية المتسبب بها ... ومع ازدحام الفضاء وصفحات الصحف والمواقع بطوفان الاتهامات المتبادلة، والروايات المتعددة، تشتد الحاجة للجنة تحقيق مهنية، موضوعية محايدة، تُلزم الأطراف بتقديم التسهيلات لها والانصياع لنتائج أعمالها وتوصياتها، وتقديم المتورطين إلى العدالة الجنائية الدولية ... هذا هو الطريق للخروج من حرب الروايات والاتهامات، وهذه هي الوسيلة لمنع الجاني/الجناة، من الإفلات من العقاب.
في غياب «المصدر الموضوعي المحايد» والمعلومة الصلبة، ثمة أربعة سيناريوهات تدور في الذهن، ومن باب التكهن بما جرى وكيف ولماذا ومن المسؤول:
الأول؛ أن يكون النظام قد فعلها، فقد فعلها من قبل، وقد يفعلها الآن، على الرغم من النفي المتكرر والقاطع للسلطات السورية، ووزير الخارجية وليد المعلم في مؤتمره الصحفي ... والنظام على أية حال، متهم من مروحة واسعة من الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، على الرغم من أنها جميعها، لم تقدم رواية صلبة، مدعمة بالشواهد والأدلة عن مسؤولية النظام عن ثاني أكبر جريمة مروّعة بالسلاح الكيماوي بعد جريمة الغوطة الشرقية عام 2013.
الثاني؛ أن يكون فريق من النظام قد فعلها من دون قرار من رأس النظام، وفي سياق ما يمكن أن يُحكى عن خلافات داخلية، مع أن حديث الخلافات والانقسامات في صفوف النظام، قد خبا مؤخراً، لكن هناك نظرية تقول إن بقاء الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به في السلطة، أمرٌ لا يروق لبعض أركان النظام، الذين – ربما –هالهم هذا التغيير في مواقف واشنطن والغرب حيال مصير الأسد ومستقبل النظام، فقرروا توريطه في مجزرة، لن ينجو منها وفقاً لحساباتهم أو تمنياتهم.
الثالث؛ أن تكون المعارضات الإسلامية (الجهادية) التي تمسك بزمام محافظة إدلب، ورعاتها الإقليميون، بالتحديد أجهزة استخبارات عربية وتركية، هي من نصب كميناً للنظام في خان شيخون، ودائماً بهدف قطع الطريق على التحولات التي طرأت على المشهد الدولي بعد تصريحات تيلرسون– كيلي عن الأسد، وبهدف تأليب الرأي العام الدولي ضد النظام، واستدرار مواقف دولية أكثر تشدداً من النظام ورئيسه، واستتباع استدراج تدخلات عسكرية ضده، لطالما انتظرها هذا الفريق واستدعاها من دون كلل أو ملل، وإن من دون جدوى.
والرابع؛ أن يكون الأمر برمته قد جاء بمحض الصدفة، التي هي بالنسبة للمعارضة ورعاتها، خير من ألف ميعاد، كأن يكون النظام قد شنّ واحدة من غاراته اليومية على أهداف للجماعات المسلحة، وصادف أن الموقع المستهدف، يستخدم لتخزين أسلحة دمار شامل، كيماوية، وأن الفرصة قد توفرت لهذا المحور، لإطلاق أوسع حملات التوظيف والاستثمار السياسيين، فهاج وماج، وبقية القصة معروفة.
لا يخطر في بالي أي سيناريو آخر، مع أنني فكرت في تخصيص واحد خامس، للزج بإسرائيل في هذه المسألة، ولكن بعد تقليب المسألة على كثيرٍ من جوانبها، لم أعثر – آسفاً – على ما يكفي من مبررات لاتهام «الكيان» الذي يحلو لبعضنا تحميلة وزر كل شاردة وواردة، بما فيها الأحداث المرورية في بلداننا.
السيناريوهات الأربع المُشار تبدو محتملة، وإن ليس بنفس الوزن والاحتمالية ... فالحرب الطاحنة والضروس في سوريا، لم تترك طرفاً نظيفاً واحداً، وفي «حرب الجميع ضد الجميع»، تلوثت كافة الأيدي بدماء السوريين الأبرياء، وليس لدى أي فريق حصانة أخلاقية أو قيمية، تجعله منزهاّ عن مقارفة أفعال سوداء كتلك التي أدمت بلدة خان شيخون.
قلنا بالأمس، ميدانياً وسياسياً يحتاج النظام لقدر هائل من الحماقة والغباء للقيام بفعلة كهذه، بعد أن دارت الدوائر وعاد المجتمع الدولي لتقبله وإبداء الاستعداد لمد اليد له ... لكن من قال أن النظام يلجأ دائماً لقوة المنطق، ولا يفضل عليها منطق القوة ... ونظرية «التآمر» على النظام من داخله، ليست لدي ما يعززها أو يعلي من شأنها، وفي مطلق الأحوال، فإن اندرجت الجريمة النكراء في سياق هذين السيناريوهين، استحق النظام لقب «عدو نفسه».
وقلنا بالأمس أيضاً، أن المعارضات المسلحة، بالذات من الطراز الإسلاموي،» الجهادي» على وجه الخصوص، لديها سوابق في استخدام هذا السلاح وفي القتل والتهجير والسبي والتشريد ... ولدى مشغليها ورعاتها، سوابق أكبر في الفبركة والتزوير والتدليس، ولديهم أذرع استخبارية وإعلامية طويلة، ويفتقرون لأي وازع من ضمير أو أخلاق يردعهم عن مقارفة أبشع الجرائم، طالما أنها قد تهدف أهدافهم السياسية.
لا مخرج من هذا التراشق ولا حلول لهذه الأحجية إلا بالاحتكام للتحقيق الدولي الدقيق، الموضوعي والمهني والمحايد ... أما الذين أعمت بصائرهم حروب الأيديولوجيات والمذاهب والانحيازات العمياء التي لا ترى من على يمينها أو شمالها، فقد أراحوا عقولهم وضمائرهم، الميتة أصلاً، إن باتهام النظام وتبرئة المعارضة، أو بالعكس، «هؤلاء من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد».
المصدر : صحيفة الدستور