عريب الرنتاوي
تتراكب الهويات الثانوية من دينية طائفية ومذهبية وقومية في كثير من مجتمعاتنا، هذا أمر طبيعي، وتلكم ظاهرة تخبو وتتفاقم على إيقاع النجاح والفشل النسبي الذي يميز سياسات الدولة الوطنية وممارساتها ... لا مجال للمقارنة بين لبنان والأردن، لا من حيث السياقات الاقتصادية والاجتماعية، ولا من حيث من طبيعة النظام السياسي، والأهم، ليس لجهة الفجوات القائمة بين هوية وطنية عامة، وهويات ثانوية متفشية بأقدار متفاوتة.
في لبنان، بالأخص بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول الماضي، انتعشت "الهوية الوطنية الجامعة"، وهتفت الساحات ضد الطائفية والمذهبية ونظامهما السياسي القائم على المحاصصة ... هذه ظاهرة إيجابية، تحدث لأول مرة ربما في تاريخ البلد الحديث... بعض المراقبين أنكرها وتنكر لها، وبعضهم الآخر، بالغ في تصوير حجمها وعمقها ... لكن أحداثاً معينة، تعطيك معرفة أعمق وأدق، بالعلاقة بين ما هو وطني وما هو ثانوي في مسألة الهوية.
في الأردن، ومنذ سنوات طوال، نتحدث عن "الهوية الوطنية الجامعة" ... الملك في خطاباته وأوراقه النقاشية، تطرق للأمر، وكذا الحال في كتب التكليف السامية للحكومات المتعاقبة ... ومن بعده، يردد أردنيون كثر هذا المفهوم، دون أن يبذلوا كبير عناء في "تفكيكه" و"تحليله" والوقوف على كيفية خدمته في نهاية المطاف، وهذا هو الأهم.
في الأردن، كما في لبنان، حديث "الهوية الوطنية" لا يمنع من انتفاض الطائفة/العشيرة ذوداً عن فاسد أو مرتشي أو مسيء لصلاحيات منصبه العمومي، لكأننا ضد الفساد والمفسدين في الطوائف/العشائر الأخرى... حصيلة هذا الموقف العابر للطوائف والعشائر، ستكون "صفرية" بامتياز، والمؤكد أنها ستلجم أي توجه جدي لمحاربة هذه الظاهرة واستئصال شأفتها.
في الأردن، كما في لبنان، حديث "الهوية الجامعة"، لا يمنعنا من رفع الصوت عالياً، إن تشكلت حكومة من دون أن يجلس على مقاعدها أحدٌ من أبناء طائفتنا أو عشيرتنا ... لكأننا نرفض المحاصصة ونطالب بـ"نائب وطن" و"وزير وطن" طالما تعلق الأمر بالآخرين، إما إن جرى استثناء "جماعتنا" لأي سبب من الأسباب، فإننا نضع جانباً حديث الهوية الجمعية، ونبدأ التذكير بمظلومياتنا ومحاولات سلبنا ما نستحق من حقوق مكتسبة أو مفقودة.
ليس الأمر في الأردن كما في لبنان ... بيد انني أراقب بكثير من الأسف، عزوف الحريري عن تشكيل الحكومة لغياب "الميثاقية" بعد إحجام كتلتين مسيحيتين عن منحه الثقة ... وأراقب بكثير من القلق، هذه "الانتفاضة السنيّة" ضد تكليف الدكتور حسان ذياب لحصوله على ستة أو سبعة أصوات فقط من أصل 27 نائب سني في البرلمان اللبناني، وأتساءل: أين كان هؤلاء وهم يهتفون بوحدة الساحات، ولبنان الواحد، وسقوط نظام المحاصصة، وسقوط نظام الطائف وميثاق 43 ... الكل وطني غيور، حتى يأتي الدور عليه، لكي يعبر عن أعمق ما في مكنونات صدره، من انحيازات طائفية ومذهبية ومحلية موغلة في انغلاقها.
قبل عزوف الحريري وانتفاضة جمهوره، لم يجد الثنائي الشيعي من وسيلة أفعل لاستنهاض جمهوره ضد "المؤامرة" و"الغرف السوداء" ، سوى في بالعزف على وتر المذهبية ... "الزعران" الذين زحفوا الشوارع، هتفوا "شيعة، شيعة، شيعة"، وفي كثير من الأحيان ضد جمهور مستهدف، شيعي في غالبيته العظمى ... هؤلاء لا يجدون حرجاً في البوح بغلبة "هويتهم الوطنية" إن كان في ذلك، خدمة لمصالحهم في هذه اللحظة أو تلك، أو أن يهتفوا ضدها ويعزفوا على وتر الهوية الثانوية، إن تطلب الأمر ... إنه مرض انفصام في الشخصية، انعكاساً لانفصام أعمق في الهوية.