عريب الرنتاوي
ثمة ما يشير إلى "بداية نهاية" حرب تحطيم أسعار النفط التي أعلنها ولي العهد السعودي محمود بن سلمان على روسيا، وإذا كان من السابق لأوانه الجزم بـ "كيف" و"متى" ستضع هذه الحرب أوزارها، وما إذا كانت الأطراف المتورطة فيها، ستتوصل إلى "تهدئة طويلة الأمد" أم إلى اتفاق "خفض تصعيد"، فإن من المؤكد أن دخول إدارة الرئيس دونالد ترامب على خط الأزمة، وبكل ثقلها، ربما يكون قد أوقف مزيداً من الانزلاقات من حافة الهاوية إلى قعرها.
لست هنا بصدد "التورط" في تقديم تحليل حول النفط وأنماط الإنتاج وسلاسل البيع والتصدير، وآليات عمل سوق الطاقة، فتلك مهمة تقع خارج دائرة اختصاصي، لكنني أجد نفسي مدفوعاً للإجابة على سؤالين اثنين، تثيرهما الانهيارات المتلاحقة، في أسعار النفط ومشتقاته: الأول؛ ويتعلق بدوافع القرار السعودي وأسبابه ومدى "عقلانيته"... والثاني؛ ويتصل بعلاقة الإدارة الأمريكية بولي العهد السعودي، وما إذا كانت كلفة صداقتها له، قد تخطت كلف خصومته، كما ألمح لذلك، غير مسؤول وأكثر من صحيفة أمريكيين.
يشبه قرار حرب تحطيم أسعار النفط، الذي اتخذه ابن سلمان قبل بضعة أسابيع، قراره شن "عاصفة الحزم" على اليمن قبل خمسة أعوام ... كلا القرارين اتسما بالانجراف نحو "مغامرة غير محسوبة"، وافتقدا للرؤية والروية، وكلاهما تسبب بكوارث إنسانية واقتصادية ومالية، ومفاعليهما تخطت قدرة الولايات المتحدة، الحليف والضامن للمملكة وولي عهدها، على التحمّل والاحتمال.
صحيفة "الواشنطن بوست" لخصت المسألة بكلمات قليلة: محمد بن سلمان "لاعب غير موثوق على الصعيد الدولي"، أما عضوا الكونغرس دان سوليفان (جمهوري) وكيفين كريمر (ديمقراطي)، فقد ذهبا إلى أبعد من ذلك، حين شرعا في إعداد مشروع قانون يقضي بمحاسبة السعودية (يُضاف إلى قانون جاستا) إن لم تتراجع خطوة إلى الوراء في حرب الأسعار، تحت طائلة إعادة النظر بالعلاقة "الاستراتيجية" معها، وسحب القوات الأمريكية من المملكة، لتُترَك مكشوفةً أمام التهديدات والأخطار.
المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية قال إن "الرياض تسيء لنفسها عندما تختار إغراق سوق النفط" ... كثرة كاثرة من المحللين وخبراء الطاقة، قالوا بأن المملكة أطلقت النار على أقدامها، فلا هي قادرة على السير قدماً على هذا الطريق المكلف عليها أكثر من غيرها، ولا هي قادرة على التراجع، من دون سلالم وشبكات أمان، باعتبار أن قرار حرب الأسعار، يرتبط بشخص ولي العهد وسمعته وكبريائه، والأهم بصراعه المحموم على العرش مع بقية مراكز القوى السعودية، داخل العائلة وخارجها.
لقد قيل الكثير في محاولة تفسير قرار "حرب الأسعار"، وسبر أغوار العقلية التي صدر عنها وحيثياتها ... بعضهم اقترح "أن غرفة عمليات أمريكية – سعودية" كانت وراء القرار، وأن الهدف الرئيس هو تحطيم صناعة النفط الروسية، وإلحاق مزيدٍ من الأذى باقتصادي إيران وفنزويلا ... وتفترض هذه النظرية أن "لعبة عض الأصابع" التي دشنها ولي العهد ضد "القيصر" كان يفترض أن تنتهي بإقدام الأخير على الصراخ أولاً ... لكن ما لحظه المراقبون هو أن الصرخة الأولى صدرت عن طرف ثالث، هو الولايات المتحدة، التي استفاقت على خطر إفلاس صناعتها النفطية وانهيارها.
صحيح أن حملة الرئيس ترامب الانتخابية، تابعت بارتياح هبوط أسعار "غالون البنزين" في السوق الأمريكية، باعتباره محركاً لكثير من الناخبين للتصويت لصالح الرئيس/المرشح، لكن خروج اللعبة عن قواعد السيطرة، وقدرة روسيا على "الصمود" في هذه الحرب، وربما لسنوات وليس لأشهر قليلة قادمة، سيفضي من دون ريب، إلى انقلاب السحر على الساحر، وسيحدث أثراً عكسياً على "الحملة الانتخابية" سيما في زمن الجائحة المعروفة باسم "كورونا"، وعلى عتبات أزمة ركود اقتصادي عالمي، باتت تُقَارن بأزمة 1929، وليس بأزمة 2008.
قاد ذلك آخرين للقول، أنها حرب "القيصر" على الولايات المتحدة، رداً على منظومة العقوبات الصارمة التي فرضتها إدارة ترامب على صناعة النفط الروسية، بل أن البعض لم يستبعد أن تكون "لعبة حرق الأسعار" منسقة بين الرياض وموسكو ... الأولى رداً على خذلان واشنطن لها في مواجهة إيران والثانية رداً على العقوبات الأمريكية، وهي الفرضية التي تراجعت سريعاً، ما أن انتهى الرئيس الأمريكي من إجراء مكالمة جادة مع ولي العهد السعودي، أدت إلى مبادرة الرياض للدعوة لاجتماع طارئ لمجموعة "أوبك +" للبحث في سبل وقف الانهيارات.
سعوديون معارضون كثر، رجّحوا أن يكون القرار النزق بشن "حرب الأسعار"، قد صدر في لحظة غضب وانفعال، وكتعبير عن رغبة غير محسوبة بالانتقام، ورأوا أن هذا هو التفسير الأقرب إلى شخصية ولي العهد ونظرته لنفسه، وطريقته في إدارة شؤون الحكم والدولة والسياسة الخارجية، بل وفي صياغة قرار الحرب والسلام، مذكرين مرة أخرى بالحرب على اليمن والغرق السعودي في مستنقعها المستمر منذ خمسة أعوام، ومن دون أن تلوح في الأفق بوادر حل سياسي أو حسم عسكري.
أياً يكن السبب وراء قرار شن "حرب الأسعار"، فإن الجدل الذي أثاره القرار، وتحديداً في الولايات المتحدة، يعيد إلى الواجهة سؤالاً قديماً متجدداً، يَظهر عند كل منعطف، حول جدوى الاحتضان الأمريكي لولي العهد السعودي وكلفة هذا الاحتضان على صورة واشنطن ومكانتها ومنظومتها الأخلاقية والقيمية، بل وعلى مصالحها المباشرة والبعيدة كذلك.
فالولايات المتحدة في مسعاها لوقف الحرب في اليمن، تصطدم بإصرار ولي العهد على الوصول إلى "تسوية" تضعه في موقع "المنتصر" بينما هو في الميدان وعلى الأرض، ليس كذلك أبداً، سيما بعد التطورات الأخيرة في شمالي اليمن (اقتراب الحوثي من مأرب) وفي جنوبه "حروب الأخوة الأعداء"، وتحول العمق السعودي إلى ساحة من ساحات الحرب والمعارك ... السعودية غير قادرة على وضع حد لهذه الحرب بالقوة العسكرية، ولكنها في المقابل، تبدو شديدة التردد في التجاوب مع مبادرات التهدئة والتسوية التي يطرحها الموفد الدولي ووسطاء آخرون، وهي فوق هذا وذاك، عاجزة عن إطلاق مبادرتها السياسية الخاصة للحل النهائي لأسوأ كارثة من صنع الانسان في تاريخ البشرية ... والمؤسف حقاً، أن "جائحة كورونا"، لم تزحزح الموقف السعودي، ولم تغير في محدداته أو تبدل في أولوياته.
والولايات المتحدة ضاقت ذرعاً بأزمة الخليج والحصار المفروض من دول "الرباعي العربي"، بقيادة السعودية، على قطر، وهي قدمت مبادرات للحل، اصطدمت جميعها بإصرار ولي العهد على الخروج من الأزمة منتصراً على دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي، وفرض شروطه وإملاءاته عليها ... هنا أيضاً يبرز السؤال حول أثر "المغامرة غير المحسوبة" في صنع القرارات الكبرى والصغرى في المملكة، التي اشتهرت تاريخياً، بدبلوماسيتها المحافظة والهادئة والرتيبة، وانتقالاتها البطيئة والمترددة من موقع إلى موقع ومن سياسة إلى أخرى.
والولايات المتحدة، تتابع بلا شك، وربما بكثير من الحرج، كيف يدير الأمير الشاب الشأن السعودي الداخلي، ولا شك أن تقارير "خارجيتها" و"مخابراتها" تطفح بالمعلومات عن اعتقالات أمراء العائلة (بعضهم من أخلص حلفائها)، ورجال دين وفكر ونشطاء وناشطات ورجال أعمال وغيرهم ... لكنها مع ذلك، لم تفعل ما يكفي لوقف هذه الانتهاكات، حتى صدق قول كثير من المعارضين السعوديين بأن حماية الإدارة الأمريكية لمحمد بن سلمان بعد جريمة اغتيال جمال خاشقجي، شجعه على تشديد قبضته الأمنية والبطش بخصومه ومجادليه، من داخل الأسرة الحاكمة وخارجها.
هو سجل حافل بالمواقف المتهورة والقرارات غير المحسوبة لولي العهد الشاب، ذات الأثر "الثقيل" على واشنطن، وليس قرار "حرب الأسعار" سوى فصلٍ واحدٍ منها، الأمر الذي يبرر طرح السؤال: أيهما أعلى كلفة على الولايات المتحدة، صداقة الرجل أم خصومته؟