عريب الرنتاوي
منذ تأسيسها قبل نصف قرن، انعقد لواء زعامة منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي ستعرف لاحقاً باسم منظمة التعاون الإسلامي، للملكة العربية السعودية ... حدث ذلك في ظروف إقليمية ودولية مواتية تماماً للمملكة، فهي من جهة أولى، حاضنة للحرمين الشريفين، مهد الرسالة المحمدية وموطنها الأول، وهي من جهة ثانية، لم تلق منافسة جدّية من قبل دول إسلامية وازنة، اقتصادياً وديموغرافياً في تلك الفترة (مصر مثخنة بجراح هزيمة حزيران 67، تركيا لصيقة بالغرب والناتو وضعيفة اقتصادياً، إيران تحت حكم الشاه، كانت دعامة أساسية للنفوذ الغربي في الخليج، الباكستان وإندونيسيا غارقتان في الفقر والتحديات الداخلية، نمور آسيا، ومن ضمنها ماليزيا، لم تكن خرجت من أقفاصها بعد) ... كما أن الزعامة السعودية للعالم الإسلامي، من جهة ثالثة، كانت "متطلباً" أملته ظروف الحرب الباردة ومقتضياتها في تلك الأزمنة.
المنظمة الإسلامية نشأت في الأصل، في سياقات الصراع العربي – الإسرائيلي وبفعل تداعياته – حريق المسجد الأقصى في العام 1969- واقتصرت أدوارها ووظائفها على تقديم الدعم والاسناد للجانب الفلسطيني، وتبنت تلقائياً، المواقف والبيانات الختامية لجامعة الدول العربية، ونأت بنفسها عن "التورط العميق" في قضايا الخلاف داخل العالم الإسلامي وبين دوله، مكتفية بدعم مواقف دول إسلامية في نزاعاتها مع دول غير إسلامية (الباكستان في صراعها مع الهند، المسألة القبرصية وغيرها).
هذا الوضع تغير في السنوات الفائتة، بل تغير كلياً، فقد تبدلت مواقع المراكز الإسلامية الكبرى وتغيرت مواقفها وتطلعاتها الاستراتيجية ... إيران الإسلامية مدفوعة بإنجازات العقدين الأخيرين، نتطلع لقيادة العالم الإسلامي أو قسم منه، في تحدٍ مباشر لزعامة المملكة المتفردة ... تركيا سيكون لها بعد العام 2002 قيادة جديدة، ذات منحى "عثماني" واضح، وطموح جامح لاستعادة أمجاد إمبراطورية دارسة ... الباكستان من موقعها كدولة إسلامية وحيدة مسلحة بأنياب نووية ... ماليزيا وإندونيسيا، تنهضان كلاعبين عالميين في مجالات الاقتصاد والتجارة، وهما مرشحتان لدور أكثر تأثيراً ... وحدها مصر، ما زالت من أسف، أسيرة سنوات الركود المديدة، التي خلّفت سلسلة من الأزمات المتناسلة، التي لم تخرج منها حتى يومنا هذا.
بقيت منظمة التعاون الإسلامي، أسيرة لشروط نشأتها، تماماً مثلما صار عليه حال "جامعة الدول العربية"، لم تفعل الكثير لنصرة الفلسطينيين سوى البيانات والقرارات والمواقف اللفظية، لم تسجل "نصراً" على هذا الصعيد، ولم تنجح في المقابل، في توسيع نطاقات التعاون والتبادل التجاري والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي بين دولها وشعوبها... لم تستجب كفاية لمتطلبات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولم تترجم على نحو صحيح، طموحات مليار ونصف مليار مسلم للحاق بركب التقدم والحداثة والتنمية على قاعدة توسيع وتعميق المصالح المشتركة لبلدانها الأعضاء.
هذا الفشل، معطوفاً على ضيق بعض الدول الأعضاء الرئيسة، بمحاولات "توظيف" المنظمة، من قِبل الدولة المضيفة و"القائدة" في حروبها وصراعاتها الإقليمية، وتحديداً ضد دول أعضاء أخرى، وليس ضد إسرائيل، "العدو الرئيس" الذي نشأت المنظمة في مواجهته، دفع دولاً عديدة للتعبير عن ضيقها بهذا الإطار، ورغبتها في تغيير وجهته واولوياته، من خلال تشكيل أطر موازية أو بديلة إن اقتضت الحاجة ... وزاد الطين بِلّة مضي المملكة في محاولاتها تشكيل ائتلافات ومحاور ذات طبيعة عسكرية، تارة في سياق الحرب على اليمن، وثانية في مواجهة إيران في إطار ما بات يُعرف بمشاريع "التحالف الشرق أوسطي" أو "الناتو العربي" بقيادة أمريكية ... في هذا السياق، ورداً عليه، تأتي قمة كوالالمبور الإسلامية التي أنهت أعمالها السبت الفائت.
استشعرت المملكة خطراً محدقاً بمكانتها في قيادة العالم الإسلامي، فقد سبق قمة كوالالمبور، صدور أصوات تطالب بتفعيل العمل الإسلامي المشترك، وتنتقد "حالة الموت السريري" التي تعيشها منظمة التعاون الإسلامي، وخلو هذا التعاون من كل ما يمكن أن يفيد نهضة المسلمين والتحاق دولهم بركب التنمية، وانتشرت مقولات واتهامات، تنتقد حالة "الاستتباع" التي تعيشها المنظمة لأجندات دولة واحدة من دولها الأعضاء، وصارت مفاهيم من نوع "السيادة" و"التنمية" و"التكنولوجيا" و"المصالح" أكثر شيوعاً في خطاب الدول المنتقدة لقيادة المملكة لهذه المنظمة، علناً وصراحة أو على نحو مضمر غير مباشر.
وسبق ذلك، أن تعالت لأول مرة، دعوات من قلب العالم الإسلامي، تطالب بـ"تدويل" رعاية الأماكن المقدسة في المملكة، وقد صدرت تلك الدعوات ابتداءً من طهران، ولاحقاً من الدوحة، ودائماً على خلفية الأزمات المتعلقة بترتيبات حجيج مواطني هذه الدول إلى مكة والمدينة، المرتبطة أشد الارتباط، بالخلافات السياسية بين طهران وعواصم هذه الدول.
والحقيقة أنه لم يبق من عناصر "الميزة النسبية" للمملكة العربية السعودية، التي مكنتها من قيادة العالم الإسلامي طوال خمسة عقود، سوى حضانتها لأهم معلمين إسلاميين على الأرض ... فثمة أقطاب إسلامية ناشئة في العالم تتوفر على عناصر الاقتدار المالي والاقتصادي والديموغرافي والجيوسياسي، تجد صعوبة في قبول الارتهان للرؤية السعودية لدور هذه المنظمة و"ولايتها" والكيفية التي تُقاد بها ... ثمة تحدٍ تركي – إيراني- ماليزي لقيادة المملكة، ليست الباكستان وإندونيسيا بعيدتان عنه، وإن كانت للدولتين حسابات وأولويات تمنعهما من تصدر صفوف المعسكر المتمرد على القيادة السعودية.
وفي ظني، أن "السياسات المغامرة" التي انتهجتها المملكة في الأعوام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، أفضت إلى "نفور" أقطاب عربية وإسلامية واتجاه عدد منها لاعتماد سياسة "الإبقاء على مسافة من الرياض"، ونشير على نحو خاص إلى المغامرة اليمنية للعهد السعودي الجديد، وجريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني في الرياض وإرغامه على الاستقالة... وزاد الطين السعودي بَلّة، إن معظم، إن لم نقل جميع، هذه المغامرات منيت بالفشل الذريع، فلم تحقق سياسات المملكة في سنوات الربيع العربي أي من أهدافها العريضة، لا في سوريا والعراق ولا في لبنان أو ليبيا.
المملكة التي تجد صعوبة في إدامة قيادتها للعالم الإسلامي، تجد صعوبة أكبر في إدامة وتجديد زعامتها للنظام العربي الذي تكاد "جامعته" تلفظ أنفاسها الأخيرة، وهي من بين أقدم جميع المنظمات الإقليمية والدولية القائمة حالياً، وتبدي دولاً عديدة، ميلاً للاحتفاظ بمسافة أمان عن الرياض ... كما أن المملكة فقدت دورها المهيمن في إطار مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي بعد فشل سياسة الحصار المضروب على قطر، وميل كل من عُمان والكويت، للتغريد خارج السرب السعودي في عدد من ملفات الإقليم وأزماته، وتراكم الدلائل على تفشي النزاع مع الإمارات في عدد من الملفات، من بينها الملف اليمني ذاته.
لقد قرأت بعض الدول/الأقطاب في العالم الإسلامي، وصول "اللحظة الخليجية في العالمين العربي والإسلامي" بداية نهايتها، وهو أمرٌ سبق لنا أن تناولنا في مقالة سابقة على هذا الموقع بالذات، فأخذت تعد العدة، لإضعاف الدور السعودي المهيمن على منظمة التعاون الإسلامي، ولكل دولة/قطب منها أسبابه وأهدافه المختلفة، بيد أن ما يجمع بينها هو رغبتها المشتركة في الخروج من الفلك السعودي، واستعادة زمام المبادرة بما يخدم أدوارها ومصالحها، ويتجاوب مع التبدلات في توازنات القوى داخل العالم الإسلامي... وإذا ما كُتب لهذه المحاولات النجاح، فإن "العرب" سيفقدون قيادة العالم الإسلامي، حتى بوجود أهم مراكزه الروحية والدينية على أرضهم، تماماً مثلما انتقلت مراكز الكنيسة المسيحية إلى الخارج، مع أن فلسطين وجوارها، هي موطن المسيحية الأول، وهي حاضنة أهم الكنائس والأديرة التاريخية وأكثرها ارتباطها بالمسيحية الأولى.