فى لقاء إنسانى رائع مع أمير البحرين الراحل الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة رحمه الله، سمعنا منه مشاعره تجاه ولى عهده -حينئذ- الشيخ حمد بن عيسى.
قال أمير البحرين الراحل: «الابن العزيز حمد يعد بالكثير من الخير، فهو شاب متميز منذ كان طالباً فى كلية [ساند هيرست] البريطانية العسكرية».
غرفة استقبال الأمير الراحل كانت بسيطة للغاية، كان أكبر ما فيها صورة مكبرة مضخمة لطابور عرض عسكرى بريطانى فيه «الابن حمد» بالزى العسكرى.
وفى مارس 1999 رحل الأمير الأب الحنون.
وتمر الأيام ويرحل الأب، ويتحمل الابن المسئولية لهذه الدولة الصغيرة فى تعدادها الكبيرة فى أحلامها، العميقة فى تاريخها.
ويصبح الشيخ حمد، أكبر أبناء الأمير، هو الرجل الأول، المتصدى للمسئوليات الجسام، وتدرب على بعضها منذ أصبح ولياً للعهد فى يونيو 1964 فيما كان فى الرابعة عشرة من عمره.
يوم ذهبنا فى مراسم العزاء لفقدان الأب استقبلنا يومها «الابن حمد» وهو بادى التأثر، وقال: «مصابنا بفقدان الوالد الكبير، لكن بإذن الله نكون عند توقعاته منا، وعند آمال وطموحات شعبنا».
ومع مرور الأيام، أثبت الرجل قدرته على نقل البلاد من إمارة إلى مملكة ومن دولة ذات اقتصاد ذى موارد محدودة إلى واحة اقتصادية مفتوحة لاستثمارات المنطقة والعالم وفق معايير وقواعد شفافة ومنضبطة.
وتعامل الملك حمد مع ظروف إقليمية صعبة وغير تقليدية.
واجه الرجل، وواجهت البحرين، مؤامرات الثأر التاريخى المدمرة من آل ثانى فى قطر ضد آل خليفة فى البحرين. وما زالت الدوحة غير قادرة على نسيان أنه كان لها مع شبه جزيرة البحرين وساحل الأحساء تاريخ مشترك، ولا تنسى الخلاف بين آل خليفة وآل ثانى رغم مرور 150 عاماً عليه!
واجه الرجل، وواجهت البحرين، قيام إيران بإذكاء نار الفتنة الطائفية للطائفة الشيعية الكبيرة فى البحرين من أجل هز استقرار البلاد.
جغرافيا البحرين، حاكمة وأساسية فى تاريخها السابق، وفى تحديد واقعها ورسم مستقبلها.
البحرين شبه جزيرة على الجهة الشرقية من شبه الجزيرة العربية تبلغ مساحتها 780كم2، ويبلغ تعداد سكانها مليوناً وأربعمائة ألف نسمة نصفهم تقريباً من المواطنين [بحرينيون] وتطور فيها مستوى دخل الفرد إلى ما يزيد على 51 ألف دولار سنوياً، رغم أنها دولة محدودة الإنتاج النفطى.
وقفت البحرين صامدة فى منطقة شديدة التوتر والانفجار رغم أنها ترقد فوق أكبر خزان للنفط والغاز فى العالم.
لم تهدأ منطقة الخليج يوماً خلال 3 عقود من الزمن، حرب العراق إيران، وغزو العراق للكويت، وحرب تحرير الكويت، والغزو الأمريكى للعراق، ودخول قوات درع الجزيرة، بزعامة الشقيقة السعودية، أراضى البحرين لتأمين أمنها القومى ضد المؤامرة الإيرانية.
لم يتردّد الملك «حمد» فى التضامن الواضح وإعلان الموقف الثابت من رفض مشروع المؤامرة القطرية على المنطقة، وعلى البحرين بوجه عام، لذلك كانت بلاده شريكاً أساسياً فى دول المقاطعة ضد السياسة القطرية.
كانت معضلة مسئولية الحكم فى البحرين هى الحفاظ على مثلث الأضلاع من التحديات:
1 - تحقيق الاستقرار فى دولة لم تتوقف فيها ليوم واحد محاولة إثارة الفتن الطائفية من إيران وقطر.
2 - تحقيق الاستقرار والرفاهية لدولة ذات موارد طبيعية محدودة بالذات فى النفط، رغم أنه يمثل 70٪ من العائدات الحكومية، ورغم ذلك تعتبر العملة البحرينية ثانى أعلى عملة فى العالم من ناحية القيمة.
3 - الحفاظ على عروبتها والتزامها بقواعد مجلس التعاون الخليجى فى زمن صعب ومنطقة مشتعلة بالتوترات الإقليمية، والإرهاب التكفيرى، ونمو الفكر الطائفى والمذهبى بميزانيات مفتوحة وشريرة من قطر وإيران.
هنا كان تحدى الملك حمد، وولى عهده الشاب، وعمه رئيس الوزراء المخضرم، ومجموعة من المستشاريين المميزين هو الحفاظ على سلامة الوطن، ومواجهة المؤامرات، فى الوقت الذى يتم فيه فتح البلاد والاقتصاد بقوة أمام حركة الاستثمارات والمستثمرين.
معادلة صعبة وليست بالسهولة أبداً، لكن ملك البحرين الصبور الهادئ استطاع أن يسير ببلاده على جسر الاستقرار والأمن بحكمة ومهارة واستطاع بشجاعة أن يستضيف فى المنامة المؤتمر الاقتصادى الذى أعلنت فيه لأول مرة - «صفقة القرن».
منذ ساعات، أعلنت المنامة، وواشنطن، وتل أبيب، فى آن واحد بياناً فيه تأكيد الدول الثلاث على اتفاقها بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البحرين وإسرائيل، كى تصبح المنامة رابع عاصمة عربية تنضم لقطار السلام، وتلحق فى أقل من شهر بالشقيقة الإمارات، وتحضر معها مراسم التوقيع على هذه العلاقة فى البيت الأبيض يوم الثلاثاء المقبل.
قرار البحرين، قرار شجاع، لدولة خليجية تدعم القضية الفلسطينية، تؤمن بالاعتدال، تتبنى المشروع العربى، مرتبطة بعلاقاتها الخليجية،ـ عليها أيضاً أن تؤمن وجودها وحدودها وشعبها فى منطقة بها أكبر خزان من الغاز والنفط وفيها أيضاً أكبر مصدر للتآمر الإقليمى القائم على استخدام الفوضى والإرهاب التكفيرى لتفجير المنطقة بهدف التقسيم.
كلٌّ من مراكز صناعة القرار فى قطر وإيران لا تنسى أبداً، ولا تقبل أن تتخلى عن مطامعها غير المشروعة مع البحرين.
قطر لديها عقدة أن البحرين كانت الأساس فى الوجود الفعلى لها، وأنها كانت الشعب الأكبر والأكثر تنويراً وتحضراً.
وإيران ما زالت لديها الأطماع الفارسية التاريخية كى تكون البحرين محافظة إيرانية لا بد من ضمها بالقوة المسلحة لمشروع الدولة «الفارسية الصفوية».
دخول البحرين على خط السلام، يحرك حالة الجمود التفاوضى الحالية للقضية الفلسطينية وأيضاً هو خطوة شجاعة لإعادة التوازنات الإقليمية وإعادة صياغة العلاقات فى المنطقة، وتدعيم مركز البحرين داخل مؤسسات صناعة القرار فى واشنطن.
قد تكون البحرين دولة محدودة الموارد الطبيعية، لكنها دولة قديمة قدم التاريخ، لا محدودة فى أحلامها الطيبة المشروعة لشعبها ولمشروعها الخليجى العربى.