بقلم - مصطفى الفقي
عرفته منذ أوائل سبعينيات القرن الماضى عندما كان يلقى محاضرة فى قاعة الأمير ألبرت الشهيرة فى لندن، ولشدة إعجابى بما قال لغة وفكرًا بإنجليزية رفيعة همست فى أذن جارى الذى لا أعرفه وقلت له: إن هذا المتحدث يأتى من دولة توأم مع بلادى، وتعرفت عليه بعد محاضرته ومنذ ذلك اليوم ارتبطت علاقتى به فى صداقة قوية حتى آخر لقاء لنا بالقاهرة منذ عدة شهور، ولذلك فإننى فقدت صديقًا عزيزًا تعودت أن أتحدث معه بصراحة ووضوح وأن أتبادل معه الرأى باحترام وتقدير، وهو مفكر عربى إفريقى ورث عن جده المهدى الكبير المهابة الشخصية واحترام الذات والتواصل مع الغير، ولقد كان معروفًا – ولو بشكل مغلوط أو مبالغ فيه – أن الحركة المهدية لم تكن على وفاق تاريخى مع مصر وأن حزب الأمة الذى كان الصادق المهدى آخر زعيم له لديه حساسيات تجاه القاهرة نتيجة تراكمات تاريخية، ولم يكن فى ذلك التصور رؤية دقيقة للأمور، فالدنيا تغيرت، والعالم تحول، والعلاقات المصرية السودانية فى صعودها وهبوطها يربطها جسر متين لا يتأثر بالأزمات العابرة، ولقد حضرت لقاءً منفردًا بين الرئيس الراحل حسنى مبارك والزعيم السودانى السيد الصادق المهدى، وأعترف بأنه لم يكن لقاءً موفقًا على الإطلاق فالكيمياء الشخصية لم تتوافق بينهما، فالصادق المهدى مفكر منظر وحسنى مبارك حاكم واقعى وتفكيره مباشر ولا يهوى التنظير، وعندما قامت ثورة ما سمى بالإنقاذ الوطنى فى السودان عام 1989 بدأ الصادق المهدى يتردد على مصر بشكل منتظم ويبقى فيها فترات أطول من ذى قبل فى مسكنه على مشارف مصر الجديدة ومدينة نصر، وكنت ألتقيه دائمًا مع مجموعة من المثقفين المصريين والسودانيين نتحدث فى الشأن العام، وقد لاحظت وقتها أن الراحل الكبير قد بدأ يتفهم الشخصية المصرية أكثر ويألف طريقة التفكير فى شمال الوادى ويخرج تمامًا من دائرة التحفظ الذى كان معروفًا به تجاه مصر، وبدأ يمارس لعبة التنس فى نادى هليوبوليس ويختلط بالمصريين الذين أحبوه وقدروه بسبب ثقافته الواسعة وفكره العميق وعائلته العريقة، وكنت أتذاكر معه أن جده الراحل المهدى الكبير كان يريد أن يقايض الإنجليز بين جوردون باشا وعودة عرابى من منفاه دليلًا على أن جذور المحبة بين شطرى الوادى قديمة ومستمرة، وقد احتفلنا بعيد ميلاده الثمانين منذ أربع سنوات تقريبًا فى جمع غفير من أنصاره ومريديه بين مصريين وسودانيين فى أحد نوادى وسط القاهرة بحى المنيرة، وقد شاركت فى المناسبة وتحدثت بكلمة صافية تكريمًا له وإعزازًا لشخصه، وكذلك فعل السيد عمرو موسى وزير الخارجية المصرى الأسبق، والأمين العام لجامعة الدول العربية حتى عام 2011، وسادت المناسبة روح المحبة والإكبار لذلك المناضل الوطنى الذى ترتبط به شخصية السودان الحديث حتى لدى المختلفين معه أو المعارضين لآرائه، ولقد علمت أن عشرات الآلاف كانوا فى استقباله عند عودته من منفاه أثناء فترة حكم البشير، وعندما كنت أعمل مع الرئيس الراحل مبارك كان يوفدنى لزيارة الرئيس السودانى جعفر نميرى فى منفاه الاختيارى بالقاهرة وكان معظم حديثنا- نميرى وأنا- يدور حول شخصية الصادق المهدى الذى كان يعاديه الرئيس السودانى الراحل بصورة واضحة، وكنت من جانبى أدافع عن مكانة السيد الصادق وتاريخه الطويل، وعندما كنت مساعدًا لوزير الخارجية للشؤون العربية والشرق الأوسط لاحظت أن السيد عمرو موسى وزير الخارجية يستقبل أسبوعيًا إما السيد الصادق المهدى زعيم الأنصار أو السيد محمد عثمان الميرغنى زعيم الختمية، وذلك تأكيدًا لحرص مصر على متابعة الشأن السودانى وتقديم الدعم السياسى للقوى الوطنية دون تدخل فى الشأن الداخلى لذلك القطر الشقيق، ولقد كان آخر لقاء لى مع السيد الصادق المهدى منذ عدة شهور على مائدة عشاء فى منزل صديق مشترك بالقاهرة وطال بيننا الحوار وامتد الحديث لساعات، وكان هو فيها بالغ الود معى كعهدى به فى صداقتنا الطويلة ولم أكن أعلم أن ذلك هو اللقاء الأخير مع زعيم وطنى ومفكر عربى إفريقى ومنظر إسلامى، وحين نعاه الناعى شعرت أن فصلًا كاملًا من تاريخ السودان الحديث قد طوى صفحاته وحزنت لفراق صديق عزيز ومفكر جليل وابن بار للمدرسة السياسية السودانية المعروفة بالصراحة والشجاعة والقدرة على إبداء الرأى فى أحلك الظروف وأصعب الأوقات.. رحمه الله رحمة واسعة.